الأربعاء، 17 سبتمبر 2014

العناصر المكونة للمجتمع الأندلسي.د/سامية جباري


إن الحديث عن المجتمع الأندلسي ، وتحديدا محاولة الإحاطة بطبقاته وأهم ما امتازت به يفرض علينا أولا الخوض في تركيبة هذا المجتمع بالحديث عن أهم العناصر البشرية المشكِّلة له، مستقرئين ظروفهم الاجتماعية، محاولين معرفة مدى الترابط والتمازج بين أفراد عناصره من عدمها ثم هل كان هذا المجتمع مزيجا متماسكا أم كان وحدة غير متجانسة، وهل الوضعية هذه تركت آثارها النفسية والاجتماعية في مختلف ميادين الحياة.
والحديث عن الأجناس المكونة للمجتمع الأندلسي يلزمنا بالعودة إلى العهود الأولى من الفتح الإسلامي للأندلس باعتباره البوابة التي فتحت للتمازج بين الأجناس سواء كان ذلك من خلال الجهاد والدخول بالدعوة أم هروبا إلى الأراضي الإسلامية الجديدة بحثا عن حكم عادل.
مما لا شك فيه أن أهم عنصرين دخلا الأندلس بعد الفتح هما العرب والبربر على اعتبار أن الحملة الأولى كانت بقيادة طارق بن زياد وموسى بن النصير حيث بلغ عدد العرب نحو ثلاثمائة واحتشد معهم البربر زهاء عشرة آلاف حسب رواية الناصري، استطاعت هذه القوة أن تخوض معركة ساهمت في تغيير مجرى التاريخ بانهزام الملك القوطي فؤسس مع الفتح جسرا امتد من المشرق وساهم في بناء معالم حضارة إسلامية عربية فوق الأراضي الأوروبية.
وما إن تمّ النصر حتى عبرت موجات من العرب إلى الأندلس وازداد توافدهم على البلاد في دفعات باختلاف أغراضهم وتوجهاتهم، فمنهم القيسية واليمنية لجأوا إلى الأندلس طالبين الاستقرار على أراضيها وقد استمرت الهجرة من شمال إفريقيا ومن الشرق إلى شبه الجزيرة دون انقطاع ولا شك أن نصيب البربر "كان أكثر من نصيب العرب".
ثم إن الحديث عن الأقلية سواء كانت عربية أم بربرية حديث يحتاج إلى تفصيل قد نتجاوزه، فالمصادر التاريخية من جهتها قد أفاضت فيه بالإشارة تارة، وبالتعريض تارات أخرى، والأهم من ذلك أن كلتا القوتين دخلت الأندلس واستقرت بها وصنعت أحداثا تاريخية مهمة بغضِّ النظر عن الصراعات القائمة بينهما طول فترة وجود المسلمين بالأراضي الأندلسية، بل حتى الصراعات والخلافات بين العرب أنفسهم التي طالما أشار إليها المؤرخون.
وهذه الهجرة لم تمنعهم حقّ الاحتفاظ بأنسابهم القديمة حتى لنجدها محل الافتخار والإطراء، وما المساجلات الشعرية إلا دليل على ذلك، كقولهم في المرابطين:
قَوْمٌ لهُمْ شَرَفُ العُلا في حمْيَرٍ             وإِذا انْتَمَوْا صَنْهَاجَةَ فَهُمُ هُمُ
لمَّا حَوَوْا إِحْرَازَ كُلِّ فَضِيلَةٍ         غَلَبَ الحَيَاءُ عَلَيْهِمُ فَتَلَثَّمُوا
وبقي العربي يشعر بالأفضلية على غيره من الأجناس، وهي سابقة خطيرة جعلت من عبد الرحمن الداخل بداية ثم أبناءه من بعده يعمدون إلى تقريب الأجناس غير العربية واستخدامهم في شؤون الدولة، "فهم أكثر ولاءً وأقل عصبية"  حيث اتخذ المماليك والموالي واستعان بالبربر واستجلبهم من برّ العدوة، واستكثر منهم ومن العبيد فكوّن جيشا كبيرا وسار على طريقه الحكم الربضي، فاستكثر من الخدم والحشم حتى بلغ مماليكه خمسة آلاف، "ثلاثة آلاف منهم يسمونهم الخرس لعجمتم"  .
ثم اعتلى المنصور بن أبي عامر سدة الحكم وغيَّر بدهائه السياسة الداخلية ففرّق بين العرب ليكسر شوكتهم، ثم اتجه نحو الصقالبة الذين كانوا في خدمة البلاط الأموي وأمنا لشرهم استبدلهم بالبربر وضيّق عليهم فجند البرابرة والمماليك واستكثر من العبيد وأسرى الحرب، ورتب من هؤلاء جميعا جنده ليخلق وحدة أندلسية تجمع بين مختلف الأجناس يسيرها حاكم واحد، فخفت صوت العصبية القبلية، وبدأ الشعور بالانتماء إلى الأرض الأندلسية يتخذ مجراه الطبيعي ورسخت بمرور الزمن ثقافة جديدة، فلم تعد تسمع عن اليمني والقيسي بل يتردد كثيرا الانتساب إلى المدن والقرى الأندلسية كالطليطلي، والبلنسي والشاطبي، الإلبيري، وغيرهم.
وإلى جانب العرب والبربر نجد السكان الأصليين على اختلاف ديانتهم إذ منهم من تأثر بالعقيدة الإسلامية فاعتنق الدين الجديد وهؤلاء يطلق عليهم اسم المسالمة، ومنهم من آثر الاحتفاظ بدينه القديم واختار الاستقرار في المدن والأراضي المفتوحة تحت الحكم الإسلامي ويعرفون بالمستعربين mozarabe أمّا الذين نشأوا وتربوا في ظل الإسلام ونهلوا منه فيدعون بالمولدين، وقد أسهموا بقسط وافر في بناء الحضارة العربية الإسلامية التي أصبحوا ينتمون إليها حتى إننا لنجد منهم من "ارتبط بالقبائل العربية برباط الولاء"تعبيرا منهم عن التحامهم وأنهم جزء من هذا الدين.
وقد عاملت الدولة الإسلامية هؤلاء جميعا بروح من التسامح وفتحت الآفاق أمام المسيحيين واليهود على حد سواء ليشاركوا في الحياة السياسية والاجتماعية ثم ليرتقوا في مناصب الدولة، وقد أثبتت مختلف المصادر مشاركة بعضهم في الوزارة والسفارة وجباية الأموال على اختلاف العصور إلا أنه أحيانا كانت الدولة تستعمل معهم نوعا من القسوة فرضتها الظروف السياسية كما هو معروف عند المرابطين، إلا أنهم تمتعوا بالحرية في ممارسة شعائرهم الدينية وتسيير شؤونهم الإدارية وفق نظمهم وقوانينهم المعهودة، ومنهم حتى من احتفظوا بأصول أسمائهم القديمة بإضافة الواو والنون في آخر الاسم كقولهم حفصون، عبدون، زيدون،... وشاركوا في الحياة الفكرية والثقافية فبرز منهم أعلام في اللغة والأدب والطب ولهم فيها تواليف.
إلى جانب هؤلاء نجد الصقالبة وهو لفظ يطلق على الرقيق المجلوب إلى الأندلس، سواء كأسرى عن طريق الحروب أو كمرتزقة، ويعرفون في المصادر التاريخية الأندلسية بأسماء متعددة كالفتيان والخرس والخصيان وهم يجلبون عادة في سن مبكرة دون التمييز بين الجنسين، فيُنشَّأوا على الطاعة والولاء ثم تغير الوضع فاستعملوا في الحرس والحاشية والجيش وأن أول من استخدمهم الأمير الأموي الحكم الربضي، فكثرت أعدادهم في الحقبة الأموية حتى بلغ أكثر من "خمسة عشر ألفا في قرطبة وحدها"  .
على الرغم من أنّهم كانوا يمثلون أقلية بالدولة إلا أن نفوذهم كان يزداد قوة وإيغالا في المجتمع والدولة إلى أن صار الاستغناء عنهم شبه مستحيل، ولم يصبح استخدامهم قاصرا على الحراسة والجيش وإنما تعدى ذلك إلى الوظائف المدنية واستطاع بعضهم الحصول على ثروات هائلة من احتياز العقار والإقطاعات، بل نجح بعضهم في "تأسيس إمارات إبان عصر الطوائف أهمها إمارة ابن مجاهد العامري" "وإمارة مبارك ومظفر العامريين الذين كانا شريكين في حكم بلنسية وشاطبة، وإمارة لبيب الصقلبي في طرطوشة، وإمارة خيران العامري بألمرية".
وتجدر بنا الإشارة هنا إلى أن لفظ الصقالبة في العصر المرابطي كان نادر الاستعمال، بل نجده استبدل بألفاظ أخرى كالعلوج، والروم، والحشم، طعّم بها يوسف بن تاشفين جيشه النظامي فجّند الأجناد وأخذ في جمع الجيوش فاشتملت الدولة المرابطية على أجناس مختلفة حيث اشترى يوسف بن تاشفين جملة من العبيد السودان سنة 464 هـ وجملة من العلوج حتى انتهى عنده "مئتان وخمسون فارسا ومن العبيد الزنوج والأفارقة نحو ألفين فغلّظ حجابه وعظم ملكه".
كما أضاف لجيشه فرقة من الغز الأتراك بالإضافة إلى "قبائل صنهاجة على اختلافها والمصامدة وجزولة وزناتة" .
هذه هي الفئات المكونة للمجتمع الأندلسي باختلاف أجناسها وميولها ودينها انصهرت فيما بينها لتكون وحدة غير متجانسة ومتباينة الأهداف، وازدادت الهوة اتساعا بمرور الزمن وبظهور أجيال جديدة بعد الفتح بقيت محافظة على أصولها الأولى متشبعة بأفكارها التي تتحين الفرصة لأجل تجسيدها في الواقع لاسيما بحلول القرن الخامس الهجري حين كثرت الفتن والاضطرابات التي كان يشنها العرب فيما بينهم ثم حروبهم مع البربر والتحقير من شأنهم وثورة هؤلاء على الأوضاع، فنشبت ثورات المولودين والصقالبة، واستغل اليهود نفوذهم في محاولة إنشاء دولة يهودية، كما سمحت الفرصة للمسيحيين المستعربين خاصة الذين لم يشعروا بالولاء للحكومة الإسلامية بل شكلوا خطرا داخليا على الأندلس منذ سقوط طليطلة لذلك نجدهم "يرسـلون سفرا يشتمل على اثنتي عشر ألفا من أسماء أنجاد مقاتليـهم"  يظهرون ولاءهم وأنهم على أهبة الاستعداد للقتال معهم ضد المرابطين، ولولا تدارك يوسف بن تاشفين الأمر لحلت كارثة عظيمة في زمنه.
وما هذه الثورات إلا دليل على عدم انصهار هذه العناصر مع الشخصية الإسلامية الجديدة، وعدم تمثل الشخصية الأندلسية في هؤلاء جميعا بل كل واحد منهم كان يمثل المواطن الأندلسي الجديد، وهو دليل واضح على أنه مجتمع يعجّ بالمختلف من الأعراق، والمتباين من الثقافات حتى وإن ساهمت هذه الفئات في التطور الحضاري بالأندلس ومكنوا للإسلام أمدا فإن الانشقاق وعدم الشعور بالانتماء الواحد للدين والوطن كان له الأثر البالغ في سقوط الأندلس التي بدت بواكره تظهر منذ أن انقسمت الدولة الواحدة إلى دويلات متنافرة.


0 commentaires:

إرسال تعليق