لقد تضافرت عدّة عوامل ساهمت إسهاما كثيرا في انتشار الزهد بالأندلس، أهمها الفساد الأخلاقي الذي عمّ مختلف المدن الأندلسية من ارتكاب للمحرّمات، والنّيل من الشهوات، والاستكثار من مجالس اللّهو والشراب، فضاعت القيم الروحية، وأصبح الإغراق في الماديات من الأمور المألوفة في مجتمع مضطرب وفي ظلال نفسية قلقة تبحث عن متنفس لها.
وهنا اضطلع المخلصون من الفقهاء بدورهم في توعية الأمّة وترشيدها نحو طريق الخلاص فتعالت أصواتهم محقّرين من الدنيا ومتاعها الزائل، داعين إلى التمسّك بالأخلاق الفاضلة على أنها سفينة للنجاة، فنتج "شعر زهدي عامر بالتقى العميق، والشوق إلى الله" ( ). من هنا يمكن القول إن نشأة الزهد إنمّا هي ردّة فعل لتلك الحياة الصاخبة التي يحياها الأندلسي، أو كما قال إحسان عباس متحدثا عن دواعيه: "فقد شحذته فوضى الحياة السياسية، وزادت في حبّ الخلاص لدى الفرد من غوائل الحياة، وشجعته على طلب النجاة لنفسه حين كان يرى الأوضاع الاجتماعية تزداد سوءا، وأصبح الزهد لدى بعض أصحابه مذهبا أدبيا وأخلاقيا معا" (.2).
فتحول بذلك إلى "ظاهرة اجتماعية بعد أن كان سلوكا فرديا" ( )، وأضحى منتشرا وشائعا بين مختلف طبقات المجتمع من أمراء فقهاء، وشعراء، وعوام، حتى أصبح الزهد "صناعة مطلوبة وزيا مرغوبا فيه" ( )
ثم كان لابّد أن يحدث ردّ فعل لهذا التيار المادي الحسي الذي كاد أن يطغى على حياة الأندلسيين، وأن يغرقهم في بحور اللّذات والمجون الصاخبة العابثة، فكان التيار المقابل له، "تيار الزهد والورع والعزوف عن الدنيويات وما فيها من نزعات ترابية ومغريات مادية" ( ).
وحين دارت المعارك وتوالى سقوط المدن الأندلسية لم يعد العنصر الذاتي الأخلاقي قصرا على الزهاد وإنما بكى الشعراء المدن الزائلة بكاء تجسد فيه عمق التيار الديني في شعر القرن الخامس.
ولأجل هذا كله يبدو السؤال مشروعا عن الأسباب والدوافع التي أنتجت هذا الاتجاه، ويمكن تلخيص أهمها في النقاط التالية:
أولا: الإخفاق في الحياة:
وعندما نتصفح شعر الزهد في عصري الطوائف والمرابطين فإننا نجد أنفسنا أمام أصناف من الزهّاد، فمنهم من ينظمه نقمة على الأوضاع الاجتماعية المزرية ساخطا عليها، لكونه مني بخيبة الأمل في النّاس، وأصحاب هذا الصنف إنما معظمهم قالوا في الزهد بدوافع الاستنكار لوضعهم الاجتماعي، "فقد كانوا مدفوعين إليه بدافع الإخفاق في حياتهم الاجتماعية أكثر ممّا هو صادر عن قناعة شخصيـة بوجوب التخلـي عن الدنيا ومتاعها" ( ). ولعّل من أبرز شعراء هذا الاتجاه السميسر الذي قال عنه إحسان عباس: "لم يكن امرءً عاملا بمبادئه الزهدية" ( ). فقد أفحش في الهجاء وأسرف على نفسه وعلى الناس في النيل من مروءتهم، وسبّ أعراضهم نجده يعمد إلى الزهد متذمرا من الأوضاع المتقلبة، فانتهجه كنوع من الهروب من هذا الواقع المظلم، يقول: جُمْلَةُ الدُّنْيَا ذَهَـابُ مِثْلَمَا قَالُوا سَـرَابُ
وَالذِّي مِنْهَا مَشِيـدٌ فَخَـرَابٌ وَيَبَـابُ
وَأَرَى الدَّهْرَ بَخِيـلاً أَبَدًا فِيهِ اضْطِـرَابُ
سَالِبٌ مَا هُوَ مُعْـطٍ فَالّذِي يُعْطِي عَذَابُ
وَلِيَوْمِ الحَشْرٍ إِنْعَـا مٌ سُـؤَالٌ وَجَـوَابُ
وَصِرَاطٌ مُسْتَقِيـمٌ يَوْمَ لاَ يُطْوَى كِتَابُ
فَاتَّقِ اللهَ وَجَنِّـبْ كُلَّ مَا فِيهِ حِسَابُ ( )
والمتمعّن في هذه الأبيات تظهر له نقمة الشاعر على أوضاعه وسوء حظه، إذ لم ينل من الدّهر ما ييسّر عليه حياته بل لم يجن سوى العذاب فتأكدّ حينها أن الدنيا مآلها إلى زوال، فدعا إلى تقوى الله والتحلّي بالأخلاق الفاضلة.مع ذلك تظهر لنا نوازعه النفسية تجاه الناس، بسوء ظنّه فيهم، واختياره الابتعاد والنفور تحقيقا للسيادة في قوله:
تَحَفُّظْ مِنْ ثِيَابِكَ ثُمَّ صُنْهاَ وَإِلاَّ سَوْفَ تَلْبَسُهَا حِدَادَا
وَمَيِّزْ عَنْ زَمَانِكَ كُلَّ حِينٍ وَنَافِرْ أَهْلَهُ تَسُدِ العِبـَادَا
وَظُنَّ بِسَائِرِ الأَجْنَاسِ خَيْرًا وَأَمَّا جِنْسُ آدَمَ فَالبِعَادَا ( )
وإذا كانت الأيام تتقدم بالسميسر ويقف من عمره على نهايته فإنّ نظرته إلى الزّهد تتحول لتصبح أكثر عمقا وأصدق إحساسا فيقول:
دَعْ عَنْكَ جَاهًا وَمَالاً لاَ عَيْشَ إِلاَّ الكَفَافُ
قُوتٌ حَلاَلٌ وَأَمْـنٌ مِنَ الرَّدَى وَعَفَافُ
وَكُلُّ مَا هُوَ فَضْـلٌ فَإِنَّـهُ إِسْـرَافُ ( )
كما يسترعي اهتمامنا الشاعر ابن الحداد في زهده عن مقاربة الأمراء، والوزراء، وذوي الوجاهة، والسلطان، فبعد أن أخرج عن ألمرية وانقطع عنه عطاء ممدوحيه من بني صمادح لجأ إلى الزهد بدافع فلسفياته:
لَزِمْتُ قَنَاعَتِي وَقَعَدْتُ عَنْهُمْ فَلَسْتُ أَرَى الوَزِيرَ وَلاَ الأَمِيراَ
وَكُنْتُ سَمِيرَ أَشْعَارِي سَفَاهاً فَعُدْتُ لِفَلْسَفِـيَاِتي سَمِيرَا ( )
ثانيا: التوبة والتضرع:
ومنهم من قال في الزهد على سبيل التوبة والتضرع إلى الله، وطلب المغفرة منه، وهي أشعار بواعثها كبر السّن والشيخوخة، حيث يذهب عدد منهم إلى الزهد "حين يكون شبح الموت منهم قاب قوسين أو أدنى" ( ) فيدعوهم ذلك إلى تذكر الآخرة والتضرع إلى الله بالأدعية والابتهالات تكفيرا عن ذنوبهم، ويدخل في هذا الصنف عدد من الشعراء الذين أوغلوا في أسباب اللّهو، وقالوا في الخمرة، والغزل الماجن، وتجردّوا في شعرهم من كل القيمّ الأخلاقية، لتنقلب حياتهم وهي مشرفة على الهلاك إلى عذاب المعصية، فيتضرعون طلبا للعفو والمغفرة كقول الأعمى التطيلي:
تَنَافَسَ النَّاسُ ِفي الدُّنْيَا وَقَدْ عَلِمُوا أَنْ سَوْفَ تَقْتُـلُهُمْ لَذَّاتهُاَ بَـدَدَا
قُلْ لِلْمُحَدِّثِ عَنْ لُقْمَانَ أَوْ لَبَدٍ لمَ ْيَتْرِكِ الـدَّهْرُ لُقْمَانٌا وَلاَ لُبَـدَا
وَلِلَّذِي همَُّـهُ البُنْـيَانُ يَرْفَعُـهُ إنَّ الرَّدِى لمَ ْيُغَادِرْ ِفي الثَّرَى أَحَدَا
ماَ ِلابْنِ آدَمَ لاَ تَفْنىَ مَطـاَمِعُهُ يَرْجٌو غَدًا وَعَسَى أن لا يَعِيشَ غَدَا ( )
ويقف ابن حمديس مسترجعا أيامه الخالية، وقد أغرق في اللّذات جانحا إلى اقتناصها في صباه، وهاهو اليأس يدّب في نفسه، فإذا بالذنوب تثقل كاهله، فيستغفر ربّه راجيا رحمته:
ياَ ذُنُوِبي ثَقَّلْتِ وَاللهِ ظَهْـِري بَانَ عُذْرِي فَكَيْفَ يُقْبَلُ عُذْرِي
كُلَّمَا تُبْتُ سَاعَةً عُدْتُ أًخْرَى لِضُرُوبٍ مِنْ سُوءِ فِعْلِي وَهُجْرِي
دَبَّ مَوْتُ السُّكُونِ ِفي حَرَكَاِتي وَخَبَا ِفي رَمَـاِدِه حمُرُ جَـمْرِي
ياَ رَفِيقـًا بِعَبْـدِهِ وَمُحِيطًـا عِلْمِـُه بِاخْتِلاَفِ سِرِّي وَجَهْرِي
مِلْ بِقَلْبِي إِلَى صَلاَحِ فَسَادِي مِنْهُ وَاجْبُرْ بِرَأْفَـةٍ مِنْكَ كَسْرِي
وَأَجِرْنِي ِممَّا جَنـَاهُ لِسَانِـي وَتَنَاجَتْ ِبِه وَسَاوِسُ فِكْرِي ( )
ويبدو أن أبا العباس الإقليشي قد عاش جانبا من حياة اللّهو، ولمّا أدركه سنّ الكهولة وجد نفسه أسير الخطايا والذنوب فقال تائبا مستغفرا:
تَطَلََّع صُبْحُ الشَّيْبِ وَالقَلْبُ مُظْلِمّ فَمَا طَافَ فِيهِ مِنْ سَنَا الحَقّ ِطَائِفُ
ثَلاَثُونَ عَاماً قَـْد تَوَلَّتْ كَأَنَّهـَا حُلُوم نَقَضَّتْ أَوْ بُرُوقٌ خَوَاطِفُ
وَجَاءَ المَشِيبُ المنْْـذِرُ المَرْءَ أَنَّـهُ إِذَا رَحَلَتْ عَنْهُ الشَبـِيبَةُ تَالِـفُ
فَيَا أَحْمَدَ الخَوَّانُ قَدْ أَدْبَرَ الصِّبـَا وَنَادَاكَ مِنْ سِنِّ الكُهُولَةِ هَـاتِفُ
فَهَلْ أَرَقَّ الظَرْفَ الزَّمَانُ الـذِّي مَضَى وَأَبْكَاهُ ذَنْبٌ قَدْ تَقَدَّمَ سَالِفٌ
فَجُدْ بِالدُّمُوعِ الحُمْرِ حُزْنًا وَحَسْرَةً فَدَمْعُكَ يُنْبِي أَنَّ قَلْبَكَ آسِفُ ( )
ومنهم أمية بن أبي الصلت الذي رأينا سابقا جانبا من شعره الغزلي والخمري، وإغراقه في المجون واللّهو، منهمكا في لذّاته، نجده يقول:
حَسْبِي فكَمْ بَعُدَتْ في اللَّهْوِ أَشْوَاطِي وطاَلَ في الغَيِّ إسْرَافي وإِفْرَاطِي
فَكَيْفَ أَخْلُصُ مِنْ بحْرِ الذُّنُوبِ وقَدْ غَرِقْتُ فيه عَلى بُعْدٍ مِنَ الشَّاطِي
يا رَبِّ مَاليَ ما أَرْجُو رِضَاكَ بِـهِ إلاَّ اعْتِرَافي بِأنِّي المُذْنِبُ الخَاطِي
ولمّا شعر بدنو أجله وزاده في ذلك قليل، ابتهل إلى الله طالبا العفو والمغفرة:
سَكَنْتُكِ يَادَارَ الفَنـَاءِ مُصدِّقـًا بِأَنِّـي إِلىَ دَارِ البَقَـاءِ أَصِيـرُ
وَأَعْظَمُ مَـا ِفي الأَمْرِ أَنيِّ صَائِـرٌ إِلىَ عَادِلٍ ِفي الحُكْمِ لَيْسَ يَجُورُ
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ أَلْقَاهُ بَعْدَهَا وَزَادِي قَلِـيلٌ وَالذُنُوبُ كَثِيـرُ
فَـإِنْ أَكُ مَجْزِيًا بِذَنْـِبي فَإِنَّنِـي بِشَرِّ عِقَـابِ المُذْنِبِينَ جَدِيـرُ
وَإِنْ يَـكُ عَفْوٌ مِنْ غَِنيِّ مُفَضِّـلٍ فَثَـمَّ نَعـِيمٌ دَائِـرٌ وَسُـرُورُ( )
ويأتي ابن خفاجة في طليعة هؤلاء الزهاد الذين طالما عاشوا في أحضان الطبيعة منغمسين في ملاذها بين قينة وكأس، قد استهوتهم الدنيا بزخارفها، وهاهو الأجل يدنو لتصدر أشعار ابن خفاجة مصورة تجاربه في الحياة وهو يواكب سقوط دول الطوائف، وينهل من الصراع المرير بين المرابطين والموحدين ليخلص في النهاية إلى التذكير بمصير الإنسان الزائل داعيا إلى القناعة والكفاف وكأنه يلفظ دررا من الحكم والأمثال، كقوله:
أَلاَ قَانِعٌ مِنْ مُلْكِ كِسْرَى بِكِسْرَةٍ فَمَا الوَجْدُ إِلاَّ الخُلْدُ لاَ مَا جَنىَ كِسْرَى
فَمَا بَالُنَا وَالمَالُ عُرْضَةُ حَـادِثٍ تَرَكْنَا مَطَايَا الريِّحِ ِفي إِثْرِهِ حَسْـرَى
وَمَا الغَيُّ إِلاَّ أَنْ يُعَبِّدَنَا الهَـوَى وَلمَ ْنَدْرِ جَهْـلاً أنَّنَا مَعْشَرٌ أَسْـرَى
وَقَدْ لاَحَ صُبْحُ الشِيبِ وَانْسَلَخَ الصِّبَا فَيَا صُبْحُ مَا أَجْلَى وَيَا لَيْلُ مَا أَسْرَى
فَيَا لَيْتَ أَنِّي مَا خُلِقْتُ ِلمَطْعـَمٍ وَلمَ أَدْر ِمَا اليُسْرَى هُنَاكَ وَلاَ العُسْرَى
فَلَسْتُ أَرَانِي وَالمَغبَّّـةُ خِسَّـةٌ يَفِي غَسْلِيَ اليُمْنىَ بِغَسْلِ اليُسْرَى ( )
ثالثا: الوعظ والإرشاد:
أما الصنف الآخر من الزهاد فهم الذين يدور شعرهم حول "معاني الوعظ عن طريق التذكير بالآخرة والتفكير في العالم والموت والحساب" ( ). وقد اتخذوا من زهدهم مذهبا يسلكونه في الحياة ووهبوا حياتهم للعلم، والوعظ، ونشر التعاليم الإسلامية، والحض على محاربة أعداء الإسلام. فكانت "حياتهم جهادا مستمرا وحربا عوانا على الفساد" ( ).
فهؤلاء الزهاد قد خبروا الحياة ووقفوا عند أسباب انهيار المجتمع من فساد أخلاقي، وابتعاد عن القيم، والمبادئ في ظل أجواء مضطربة وقلق مستمر إزاء ما يحدث من فتن واضطرابات، وسقوط للدول والممالك على يد العدو المسيحي، فجاء شعرهم محذّرا من مغبّة الوقوع في المعاصي، داعين إلى التحلي بالأخلاق وإلى التماسك من أجل نصرة الدين مستنفرين إلى الجهاد محرّضين عليه، مؤكّدين على عدم الاغترار بالدنيا الفانية، إذ أن بقاءهم مرهون ببقاء أخلاقهم، وإنما زوالهم يكون بابتعادهم عن المفاهيم الروحية للدين الحنيف، وتنكرّهم لمبادئه السمحة؛ لهذا كثر في شعرهم ذكر الرجوع إلى الله، والتزام التقوى والصلاّح مرغّبين في الآخرة ونعيمها، منفرّين من الدنيا وزخارفها، وكان في طليعة هؤلاء أبو إسحاق الإلبيري، فقد كان "من أهل العلم والعمل معروفا بالصلاح" ( ).
وقد سجلنّا له موقفا إيجابيا في ثورته ضد اليهود، فهو من أبرز الشعراء ذوي الإحساس المرهف بما يحاك ضدّ الدولة من مؤامرات، وأكثرهم إيمانا بضرورة الحفاظ على القيّم والمبادئ، مشاركا في إصلاح الأوضاع الاجتماعية المزرية متخّذا من زهده مذهبا أخلاقيا يراد من خلاله إعادة بناء المجتمع على أسس متينة، فمكّنه ذلك من الوصول إلى القمّة بما أضفى عليها من "حرارة الوجد والانفعال والإقرار بالضعف الإنساني أمام مغريات الحياة ومكافحة الشهوة العارمة" ( )، يقول:
يَا أَيُّهـَا المُغْتَـرُّ بِاللهِ فِـرَّ مِـنَ اللهِ إِلىَ اللهِ
وَلُذْ بِهِ وَاسْأَلْهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ نَجَا مَنْ لاَذَ بِاللهِ
وَقُمْ لَهُ وَاللَيْلُ ِفي جُنْحِهِ فَـحَبَّذَا مَنْ قَـامَ ِللهِ
وَاتْلُ مِنَ الوَحْيِ ولو آية تُكْسَى بها نُورًا منَ الله ( )
ومن هذا الصنف أبو بكر الطرطوشي الذي سلك طريق الوعّاظ، داعيا إلى تطليق الدنيا، وإلى التزام العمل الصالح فهو قارب للنجاة:
إِنَّا ِللهِ ِعبَـادًا فُطْنَـا طَلَّقُوا الدُّنْيَا وَخَافُوا الفِتَنَا
فَكَّرُوا فِيهَا فَلَّمَا عَلِمُوا أَنَّهَا لَيْسَتْ لِحَـيٍّ وَطَنَـا
جَعَلُوهَا لُُجَّةً وَاتَّخَذُوا صَالِحَ الأَعْمَالِ فِيهَا سُفُنَا ( )
ويورد ابن سارة الشنتريني جملة من المفارقات في تطرّقه لموضوع الدّهر، فيربطه بالشيب والكبر، بالسمع والبصر، بالعين والأثر، وبتعاقب الشمس والقمر، ثم البدو والحضر:
يَا مَنْ يُصِيخُ ِإلىَ دَاعِي السِّفَاهِ وَقَـدْ نَادَى بِكَ النَاعِيَانِ الشِّيبُ وَالكِبَرُ
إِنْ كُنْتَ لاَ تَسْمَعُ الذِّكْرَى فَفِيمَ ثَوَى ِفي رَأْسِكَ الوَاعِيَانِ السَّمْعُ وَالبَصَرُ
لَيْسَ الأَصَّمُ وَلاَ الأَعْمَى سِوَى رَجَلٍ لمَ يَهْدِهِ الهَادِيَـانِ: العَيْنُ وَالأَثَـُر
لاَ الدَّهْرُ يَبْقَى وَلاَ الدُّنْيَا وَلاَ الفَلك الأَعْلَى وَلاَ النَيِّرَانِ: الشَّمْسُ وَالقَمَرُ
لَيَرْحَلَنَّ عَنْ الدُّنْيـَا وَإنْ كَرِهـَا فِرَاقَهاَ الثَاوِياَنِ: البَدْوُ وَالحَضَرُ ( )
وكقول أبي بكر محمد بن خطاب القيسي:
المَوْتُ يَطْلُبُنَا وَاللَََّهْوُ يَشـْغَلُنـَا وَالنَّفْسُ ِفي كُلِّ حِينٍ أَمْرُهَا خَبَلُ
تَبْلَى النُّفُوسُ وَلاَ تَبْقَى وَإِنْ كَبُرَتْ عَلىَ الحَيَاةِ وَلاَ يَبْقَى لهَـَا أَمَلُ ( )
ودعوة أبى الفضل بن أعلم إلى التفكر في الموت في كلّ وقت:
المَوْتُ يَشْغَلُ ذِكْـرُهُ عَنْ كُلِّ مَعْلُومٍ سِوَاهْ
فَاعْمُرْ لَهُ رُبْعَ ادِّكَـا رِكَ بِالعَشِّيـَةِ وَالغَدَاهْ
وَاكْحِلْ بِهِ طَرْفَ اعْتِبَا رِكَ طُولَ أَيَّامِ الحَيَاهْ
قَبْلَ ارْتِكَاضِ النَّفْسِ مَا بَيْنَ التَّرَائِبِ وَاللَّهَاهْ ( )
وثمة ظاهرة نلمسها ونحن ندرس شعر الزهد في الأندلس، وهي أن شعراء الزهد باختلاف أصنافهم كانوا يعمدون إلى ذكر أبيات شعرية يصّب موضوعها حول الفناء والزوال، والتذكرّ والاعتبار، ويتركونها كوصية لتكتب على قبورهم.
منها ما قال المعتمد عند موته وأمر أن يكتب على قبره:
قَبْرُ الغَرِيبِ سَقَاكَ الرَّائِحُ الغَادِي حَقًّا ظَفِرْتَ بِأَشْـلاَءِ ابْنِ عَبَّـادِ
بِالحِلْمِ بِالعِلْمِ بِالنُّعْمَى إِذاَ اتَّصَلَتْ بِالخَصْبِ إِنْ أَجْدَبُوا بِالرَيِّ الصَادِي
بِالطَّاعِنِ الِضَارِبِ الرَامِي إِذَا اقْتَتَلُوا بِالمَوْتِ أَحْمَرَ بِالضِّرْغَامَةِ العَادِي ( )
أما ابن خفاجة فقد قال أبياتا في التأمل والترحم أوصى أن تكتب على قبره:
خَلِيلِي هَلْ مِنْ وَقْفَـٍة لِتَأَّلُـمِ عَلَى جَدَثِي أَوْ نَظْـرَةٍ بِتَرَحُـمِّ
خَلِيلِي هَلْ بَعْدَ الرَدَّى مِنْ مَآبَةٍ وَهَلْ بَعْدَ بَطْنِ الأَرْضِ دَارُ مُخَيَّم
وَأَنَّا حَيِيـنَا أَوْ رَدِينَا لإِخْـوَةٍ فَمَـنْ مَرَّ ِبي مِنْ مُسْلِمِ فَلْيُسَلِّـم
يُرَدِدُّ طَوْرًا آهَةَ الحُزْنِ عِنْدَها ويَذْرِفُ طَوْرًا دَمْعَةَ المُتَرَحِّـمِ ( )
كما كتب أبو بكر محمد بن إبراهيم العامري أبياتا توضع شاهدا على قبره جاء فيها:
لَئِنْ نَفَذَ القَدَرُ السَابِـقُ بِمَوْتِي كَمَا حَكَمَ الخَالِقُ
فَقَدْ مَاتَ وَالِدُنَـا آدَمُ وَمَاتَ مُحَمَّدٌ الصَّادِقُ
فَقُلْ لِلَّذِي سَرّه مَهْلِكِي تَأَهَبّ فَإِنَّكَ ِبي لاَحِقُ ( )
وهكذا فقد أفرزت الأوضاع الاجتماعية في الأندلس مجموعة من الزهاد جاءت أشعارهم كدعوات لإصلاح المجتمع المتردي، وما حلّ به من فساد وانحلال للقيم وسقوط في مغبّات الرذيلة، من نساء، وخمر، وغلمان، ليبرز أثر الانفعال الوجداني الديني في أشعارهم، وتبدو لنا ملامح هذا المجتمع أكثر وضوحا بجانبيه الزاهد المتبتل، الثائر على نقيضه اللاّهي العابث.
ومجمل معاني الزهد توجهت نحو إصلاح النفس ثم المجتمع، بالدعوة إلى التفكر في اليوم الآخر والترفّع عن الخطايا بتزكية النفس من أدرانها، ثم الاستماتة في سبيل الله، مدركين أن انهيار الأندلس إنمّا يكون نتيجة حتمية للانهيار الأخلاقي.
بارك الله فيك أستاذة على هذه الكتابات الممتعة لكني لم أفهم استشهادك بأمية بن الصلت و هو شاعر جاهلي قال فيه النبي صلى الله عليه و سلم أسلم شعره و كفر قلبه ، و كذلك أبيات إن لله عبادا فطنا الذي أعرفه أنها للشافعي رحمه الله تعالى في انتظار ردكم الجميل دمتم في رعاية الله و حفظه
ادا كان بالامكان من فضلكم مساعدتي بمصادر ومراجع حول التصوف والمتصوفة في الاندلس خلال القرنين 4 و 5 هجري انا بصدد اعداد مذكرة ماستر
المصادر
من شعراء الزهدة في الاندلس