لم تكن موضوعات الشعر الأندلسي بمعزل عن تلك التي خاض فيها الشعراء المشارقة، فقد نظموا في مختلف الأغراض، وأفاضوا في ذكر المناقب والخلال، مقلدين تارة ومبدعين تارة أخرى، فجادت قرائحهم بشعر خلد المواقف وسجل القيم.
ولعل شعر الآداب والأخلاق الإسلامية من أهم المواضيع التي أفاض فيها الشعراء الأندلسيون، ذلك أنهم حملة رسالة ودعوة تمثل فيهم قوله تعالى : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُم( ). فمن هذا المنطلق، شارك الشعراء أصحاب الدعوات في حمل رسالة الإسلام والدعوة للالتزام بالأخلاق والآداب الفاضلة، فمثلوا القيم وصوروها في أشعارهم، ودعوا إلى مكارم الأخلاق على صفحات شعرهم في هذا العصر، كالشجاعة والمروءة والكرم، والوفاء والحلم، والعفة والعدل، والشرف والسيادة والمجد.
وقد أشار ابن حزم إلى هذه الفضائل في قوله:
زمامُ جميـعِ الفَضَائِل فيه عَدْلٌ وفهمٌ وجـودٌ وبـاسْ
فَعنْ هَذِه رُكِّبَت غيرهـا فمن حازها فهو في النَاسِ رَاسْ
كَذَا الرأْس فيه الأمور التي بِإحْسَاسِهَا يُكْشَفُ الالْتِباسْ) (
وأقرب موضوعين يلتقي فيهما شعر الآداب والأخلاق، هما: شعر الزهد وشعر المديح.
فشعر الزهد في نزعته العامة يرفع لواء الدعوة إلى مكارم الأخلاق والفضائل الإسلامية، وكثير من شعراء الزهد هم شعراء آداب وأخلاق، وأما مديح الشاعر لممدوحيه على اختلاف أجناسهم ومنازلهم ملوكا ووزراء، وقادة وقضاة، فهـو "إعلان وإذاعة لمكارم الأخـلاق والفضائـل التي تحلّـوا بهـا" ) (.
وسنقف في هذه الدراسة على جملة من الآداب والأخلاق السامية التي تغنى بها شعراء الفترة محل الدراسة، نستجلي من خلالها مدى تمسك المجتمع الأندلسي بقيمه ومبادئه الإسلامية من ذلك ما تغنى به ابن دراج من قيم أضفاها على ممدوحه المنصور بن أبي الحكم منذر بن يحي.
وَقَدْ تَمَّ في هَذَا الوَرَى بكَ أنعـمٌ يُقَصَّر عَنْ أَدْنَى عوَارفِهَا الشُكْرُ
فَمِنْها النُهَى والحِلْمُ والدِّينُ والتُقَى وبَذْلُ اللَّهَى والجودُ والبأُس والبرُّ
وزَحْفٌ إلى الأَعْدَاءِ أَغْرَاضُه العِدَى وسَيفٌ عَن الإسْلاَمِ إِقْدَامهُ النَّصْرُ
وبَذْلُكَ دونَ الثَّغْرِ نَفْسًا عَزِيـزَةَ حَمَتْ عَنهُ حَتَّى عَادَ وهِي لهُ ثَغرُ) (
والناظر في هذه الأبيات سيدرك حتما أن القيم المذكورة في مديح ابن دراج، هي قيم يقدرها المجتمع ويدعو إليها، ويثني على حاملها حتى وإن شعرنا بنوع من المبالغة في الإطراء بخلال ممدوحه، ومن أبرز تلك الفضائل والخلال نذكر:
أولا: الحكمة والزهد:
شعر الحكمة كما هو معروف شعر التأملات الفلسفية المستقاة من خلاصة التجارب الخاصة في مناحي الحياة المختلفة. ومن هنا اهتم عدد من الشعراء بصياغة أفكارهم وآرائهم عن الحياة والوجود، وأنتجوا شعرا مليئا بالعظة والعبرة من جهة، ومن جهة أخرى فهو يظهر لنا "ما يقرّه أو ينكره الحكماء من أخلاق، وسياسة مجتمعاتهم") ).
وفي هذا المضمار يحدد لنا دوزي مفهومه لهذا النوع من الشعر فيقول: "أما شعرهم في الحكمة والفلسفة فيدور كلّه حول زوال هذه الحياة وقصر أجلها، وتقلب أحوالها، ويتحدث عن القضاء الذي لا مفرّ للإنسان منه، وقلة غناء خيرات هذه الدنيا، ويتغنى بذكر الفضائل الخلقية والعلوم ويقدرها حق قدرها". ) (
وفي نماذج شعرهم دليل على تأملاتهم وآرائهم التي ما فتئت تحرك الوجدان، وتلهب العواطف، منها قول أبي الوليد الباجي :
تَبَلَّـغْ إلى الدُنْيـَا بأَيْسَـرِ زَادِ فإنَّـكَ عَنْهَا رَاحِـلٌ لمِعـادِ
وغُضَّ عَنْ الدُنْيا وزُخْرُفِ أَهْلِها جُفونَك واكْحِلْها بِطُولِ سُهادِ
وجَاهِدْ عَنِ اللّذَاتِ نَفْسَك جَاهِدًا فَإِنَّ جِهَادَ النَفْسِ خَيْـرُ جِهَادِ
فَمَا هَذِه الدُنْيـَا بـدَارِ إقَامَـةٍ فَيُعْتَدّ مِن أَغْرَاضِهَـا بِعَتَادِ) (
ومنها قول أبي عمر بن عبد البر القرطبي:
تَجَافَ عَنْ الدُنْيا وَهوِّنْ لِقَدْرِهَا وَوَفِّ سَبِيلَ الدِّينِ بالعُرْوَةِ الوُثْقَى
وسَارِعْ بِتَقِوىَ اللهِ سِرًّا وجَهْرَةً فَلاَ ذِمَّةٌ أَقْوَى هُدِيتَ مِن التَقْوَى
ولاَ تَنْسَ شُكْرَ اللهِ فِي كُلْ نِعْمَةٍ يَمُّنُ بِهَا فالشُكْرُ مُسْتَجَابُ النُّعْمَى
فَدَعْ عَنْكَ مَا لاَ حَظَّ فيه لِعَاقِلٍ فَإنَّ طَريقَ الحَقِّ أبْلَجُ لاَ يَخْفَى) )
هذه الأبيات، دعوة خالصة إلى التحلي بمجامع الحكمة، وحتى يتحقق ذلك، لابد من الإعراض عن الدنيا الزائلة وعدم تعظيمها في النفوس. إلى جانب ذلك، ضرورة تحلي المرء بالتقوى في السر والعلن، ثم شكر الله على نعمته، مهما عظمت أو صغرت، وختاما يدعو إلى استخدام العقل وتحكيمه، فالحق واضح أبلج.
ومنها قول ابن شهيد:
فَـلاَ يَغُرَّنْكَ مِنْ قَـوْلٍ طَلاَوَتُهُ فَـإِنَّمَا هِـيَ نُـوَّارُ ولاَ ثَمَـرُ
لَوْ يُنْفِقُ النَّاسُ مِمَّا فِي قُلُوبِهِـمُ فِي سُوقِ دَعْوَاهُم للصِّدْقِ مَا تَجَروُا
لَكِنَّ فِيهَا نُفُودَ القَوْلِ جَاريـةٌ عَلَى مقَاديرَ مَا يُقْضـى بهِ وَطَـرُ
يَقْضِي المُحَنَّكُ أَو يُقْضَى لِحِنْكَتِهِ وبَيْنَ ذَاكَ وهَـذَا يَنْفُذُ العُمْـرُ) (
ويعدُّ أبو إسحاق الإلبيري أبرز شعراء عصره في الوعظ، وترشيد الناس إلى الأخذ بأسباب الفلاح، كقوله :
تَفُتُّ فُـؤَادَكَ الأَيـَّامُ فَتـًا وتَنْحَتُ جِسْمَكَ السَاعَاتُ نَحْتَا
وتَدْعُوكَ المَنُونُ دُعَـاءَ صِدْقٍ ألاَ يَا صَـاحِ: أَنْتَ أُرِيدُ أنْتَـا
تَنَامُ الدَّهْرَ وَيْحَكَ فِي غَطِيطٍ بِهَا حَتَّى إذَا مِـتَّ انْتَبَهْتَـا) (
في هذه الأبيات زجر كبير للغافلين حيث ركز فيها الألبيري على نهاية الإنسان، وأن مآله إلى الزوال، فقد يبقى في غفلة ساهيا ولا يتفطن إلا والموت يطرق أبوابه، فلا رجعة ولا مفر، وهي كما قال مصطفى بهجت "تعد نسيج وحدها في موضوعها، ومقاصدها متعددة ومراميها متنوعة، وهي صورة قيمة لما يوعظ به الغافل التائه". ) (
أما ابن وهبون فقد ضمن قصيدته آراءه الخاصة في النفس والحياة والمصير، إذ يقول :
نَفْسِي وَجِسْمِيَ إنْ وَصَفْتُهما معا آَلٌ يَـذُوبُ وصَخْرَةٌ خَلْقَـاءُ
لَوْ تَعْلَمُ الأَجْيَـالُ كَيْفَ مَآَلَهَـا عِلَمِي لِمَا امْتَسَكَتْ لهََا أَرْجَـاءُ
بِتَعَاقُبِ الأَضْدَادِ مِمَّـا قَدْ تَرَى جُلِبَتْ عَلَيكَ الحِكْمَةُ الشَنْعَـاءُ
أَيَغُرُّنِي أَنْ يَسْتَطِـيلَ بِي المَدَى وأَبِي بِحَيثُ تَوَاصَـتِ الغَبْـرَاءُ
وَنَظِيرُ مَوْتِ المَرْءِ بَعْدَ حَيَاتِـهِ أَنْ تَسْتَوَي مِنْ جِنْسِهِ الأَعْضَـاءُ
مَا النَّفْسُ إلاّ شُعْلَةٌ سَقَطَتْ إِلى حَيْـثُ اسْتَقَلَ ِبهَا الثَرَى والمَـاءُ
حَتَى إذَا خَلُصَتْ تَعُودُ كَمَا بَدَتْ وَمِنَ الخَلاَصِ مَشَقَّةٌ وَعَنَـاءُ) (
ومنها قول ابن حمديس، مبرزا رأيه في الحياة والمصير والبعث:
نُفُوسُنَا بالرَجَـاءِِ مُمْتَسِكَهْ والموتُ للخَلْقِ نَاصِبٌ شَرَكَهْ
تَبرمُ أجْسَامُـنَا وتَنْقُضُهَـا طَبَائِعٌ فِي المِـزَاجُ مُـشْتَرَكَهْ
لَوْلاَ انتِشاقُ الهَوَا لمَِتُّ كَمَا تمََوُتُ مَعْ فَقْدِ مَائِهَا السَمَكَه
نُنْشَأْ بِالْبَعْـثِ بَعْدَ مِيتَتِنَـا أَمَا يُعِيدُ الزُجَاجَ مَنْ سَبَكَه) (
منها ما قاله ابن زيدون معبرا عن نظرته للحياة:
الدَّهرُ إنْ أَمْلَى فَصِيحٌ أَعْجَـمُ يُعْطِي اعْتِبَارِي مَا جَهِلتُ فَأَعْلَمُ
أنَّ الذِي قَدَرَ الحَوَادِثَ قَـدْرَهَا سَاوَى لَديه الشَّهْدُ مِنْهَا العَلْقَمُ
ولَقَدْ نَظَرْتُ فَلاَ اغْتِرَابٌ يَقْتَضَي كَدَرَ المَآلِ ولا تَـوَقٍّ يَعْصِـمُ
كَمْ قَاعِدٍ يَحْظَى فَتُعْجِبُ حَـالَه مِنْ جَاهِدٍ يَصِلُ الدَّؤُوبَ فَيَحْرَمُ
وأَشُدُّ فَاجِعَةِ الدَّوَاهِي مُحْسِـنٌ يَسْعَى لِيُغْلِقَهُ الجَـرِيمَة مُـجْرِمُ
تَلْقَى الحَسُود أَصَمَ عَنْ جَرْسِ الوَفَا وَلَقَدْ يَصيحُ إلى الرُقَاةِ الأَرْقَمُ) (
فالدهر كاف لأن يعلمنا ما جهلنا، وذلك بقياسنا العبر بعضها ببعض، فالذي صح مقياسه استوى لديه حلو الحياة ومرّها. ومن أخطر الظواهر في نظره، وضع لئيم يحسد شريفا، فيناصبه العداء حسدا منه وبغيا، وأشد من ذلك سعي مجرم لإلصاق التهم بمحسن تلفيقا منه وكذبا. أما الحسود فهو أصم عن سماع صوت الوفاء.
ومنها ما جادت به قريحة أبي وهب القرطبي، إذ يقول:
تَنَامُ وقَـدْ أُعِدَّ لَكَ السُهـادُ وتُوقِنُ بالرَحِيـل وَلَيْسَ زَادُ
وتُصبحُ مِثْلَ ما تُمسي مُضيِعًا كَأَنَكَ لست تَدْرِي مَا المُـرَادُ
أَتَطْمعُ أن تَفُوزَ غَـدًا هَنِيئـًا وَلمْ يَكُ مِنْكَ في الدُنْيَا اجْتِهَادُ) (
كما يروي ابن سعيد عن أبي عمرو بن الإمام (ت550هـ) أنه لقيه وكان غاية في الزهد، مطرحا لنفسه، يقول أنه استنشده من شعره فأنشده:
ثِقْ بِالـذِي سَـوَّاكَ مِـنْ عَدَمٍ فإنَّكَ مِـنْ عَـدَمْ
وانْظُـرُ لِنَفْسِكَ قَبْلَ قَـرْ عِ السِّنِّ مِنْ فَرْطِ النَـدَمْ
واحْذَرْ -وُقِيتَ- مِنْ الوَرَى وأصْحَبَهُمُ أَعْمَى أَصَـمّْ
قَـدْ كُنْتُ في تِيـهٍ إلَى أن لاَحَ لي أَهْدَى عَلَـمْ
فاقـتدتُ نحو ضيـائِـه حتى خرجتُ مـن الظُّلَمْ
والشاعر في هذه المقطوعة الزاهدة يتحفنا بحكم جليلة، إذ يطلب من الإنسان أن يضع ثقته في الله، يتوكل عليه في جميع أموره لينهض بما يحفظ نفسه، ويقوم بما عليه من واجبات قبل فوات الأوان، ثم يحذره من الناس ليضع له نظاما في الصحبة فهو أصم أعمى، وكل هذه المعاني تمثلها في نفسه بعدما أضحى دربه منيرا مضيئا.
ثانيا: التوبة والاستغفار:
من المعاني التي انطوى عليها شعر الزهد، التوبة والإنابة والرجوع إلى الله في قالب استغفاري مشحون بعبارات الخضوع لله الذي لا مفر منه إلا إليه.
يقول البطليوسي :
قَـلْ لِقَـوْمٍ لاَ يَتُوبُـونْ وعَلَى الِإثْـمِ يُصِـرُّونَ
خَفِّفُـوا ثِقَـلَ المَعَاصِي أَفْلَحَ القَـوْمُ المُخِفُّـونَ
لَنْ تَنَـالُوا البِـرَّ حَتَـى تُنْفِـقُوا مِمَّا تُحِبُّـونَ) (
فهو يدعو إلى الرجوع إلى الله، وفيه تقريع لذوي النفوس الضعيفة والقلوب الميتة يذكرهم بالآخرة حيث لا يفلح إلى من تزكى.
ومنها قول ابن خفاجة :
صَحَا عَنْ اللَّهْوِ صَاحٍ عَافَهُ خُلُقًا فَقَـامَ يَخْلَعُ سِرْبَالًا لَهُ خَلَقَا
وَعَطّلَ الكَأْسَ مِنْ شَقْرَاءَ سَابِحَةٍ أَلاَ كَفَاهَا بِرَيْعَانِ الصِّبَا طَلَقَا) (
والشاعر هنا يصور المقلعين عن الذنوب وقد هجروا حياة الصبا اللاهية بعد أن بلغ المشيب بهم، معلنين توبتهم وتطليقهم للدنيا.
ومنها قول ابن زيدون :
وجَاوَرْتُ بيتَ اللهِ أُنْسًا بِمَعْشَرٍ خَـشَوْهُ فَخَرُّوا رُكَّعَّا وأَنَابُوا
لَقَدْ جَدَّ إِخْبَاتٌ وَحَقَّ تَبَتُّـلٌ وبَالَغَ إخْلاَصٌ وَصَحَّ مَتَابُ) (
ومن الزهاد من اعترف بذنوبه الكثيرة، فتوجه إلى الله بالتوبة والاستغفار عساه ينال القبول إذ يقول:
سَكَنْتُكِ يادَارَ الفَـنَاءِ مُصـَدِّقًا بِأَنِـي إلى دَارِ البَقَـاءِ أَصِيـرُ
وَأَعْظَمُ مَا في الأَمْرِ أنِي صَـائِرُ إِلى عَادِلٍ فِي الحُكْمِ ليَْسَ يَجُورُ
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ أَلْقَاهُ عِنْدَهَا وزَادِي قَلِـيلٌ والذُنُوبُ كَـثِيرُ
فَإنْ أَكُ مُـجْزِيًا بِذَنْـبِي فَإِنَّـنِي بَشَرٌّ عِـقَابُ المُذْنِبِينَ جَدِيرُ) (
وكقول ابن شهيد في آخر أيامه وقد أدرك رحيله دون زاد:
وَلَمَّا رَأَيْتَ العَيْشَ لَوَّى برأسِه وَأَيْقَنْتُ أنَّ الموْتَ لا شَكَّ لاحِقِي
تَمَنَّيْتُ أَنِّي سَاكِنٌ فِي عبـاءةٍٍ بِأَعْلَى مَهَبِّ الرِّيحِ في رَأْسِ شَاهِقِ
أَرُدُّ سَقِيطَ الحَبِّ في فَضْلِ عِيشَتِي وَحِيدَا وَأَحْسُو المَاءَ بَيْنَ الْمَفالِـقِ
خَلِيليَّ مَنْ ذاق الْمَنيـَّةَ مَـرّةً فقدْ ذُقْتُها خَمْسينَ قَوْلَةَ صَـادِقِ
كَـأَنِّي وقدْ حَانَ ارْتِحَالِيَ لَمْ أَفُزْ قديمًـا مِنَ الدُّنْيَا بِلَمْحَةِ بَارِقِ) (
ثالثا: الكرم والجود:
احتلت صفة الكرم والجود مكانا بارزا في مدائح الشعراء، فأضحت صفة لصيقة بالممدوحين على اختلاف مراتبهم، فالممدوح جوّاد معطاء، كثير الإنفاق، تعددت صوره واختلفت من شاعر إلى آخر. كالذي نجده عند ابن عمار وهو يبالغ في مدح المعتضد بعواطف جياشة وأحاسيس فياضة حينما يتحدث عن جوده وكرمه معلقا آماله عليه:
أنْدَى عَلَى الأكْبَادِ مِنْ قَطْرِ النَدَى وأَلَذُ في الأَجْفَانِ من سِنَةِ الكَرى
قَـدَّاحُ زِنْـدِ المَجْدِ لاَ يَنْفَكُّ مِن نَارِ الوَغَى إِلاَّ إِلَى نَـارِ القِرَى
يَخْتَالُ إذْ يَهَبُ الخَرِيدَةَ كَاعِبـًا والطَّرْفَ أَجْرَدَ والحُسَامَ مُجَوْهَرًا) (
ومنها قوله :
مَلـِكٌ يَرُوقُـكَ خَلْقَهُ أَوخُلُقَهُ فَالرَوْضُ يحسن مَنْظَرًا أو مَخْبَرًا
وسَمِعْتُ بَاسِمَ القطر حَتَى شُمْتهُ فَرَأَيْتهُ فِـي بُرْدَتَيْـهِ مُصَـوَّرَا
وجَهِلْتُ مَعْنَى الجُودِ حَتىّ زُرْتُـهُ فَقَرَأْتُـهُ فِي رَاحَتَيْـهِ مُفَسَّـرًا
فَاحَ النَّـدَى مُتَعطـرًا بِثِيَابِـهِ حَتىَ حَسِبْنَا كُلّ تُرْبٍ عَنْبَـرًا) (
فابن عمار في هذا المقام يبالغ في وصف جود المعتضد الذي ينفق ماله منشرح الصدر، باسم الثغر منوها بجمال خلقه وخلقه الذي ما زاده إلا وقارا وجلالا، فيده بيضاء مبسوطة، مكنته من معرفة دلالات الجود التي كان يجهلها عنه فامتدت إليه تتقاطر كرما.
ومنها مديح أبي زيد عبد الرحمن بن مقانا الأشبوني لإدريس بن يحي الحمودي أمير مالقة:
وكَأَنَ الشَمْسَ لمَـاَّ أَشْرَقَـت فَانْثَنَتْ عَنْهَا عُيونُ النَاظِرينَ
وَجْهُ إدْرِيسَ بن يَحْيَ بن عَلِي اِبَنِ حَمُّودٍ أَمِيرِ المُؤمِنيـنَ
خَطَّ بِالمِسْكِ عَلَى أَبْوَابِـهِ ادْخُلُوهَا بسَـلاَمٍ آَمِنيـنَ
ويُنَادِي الجَـودُ في آفَاقَـهِ يَمِّمُـوا قَصْرَ أَمِيرَ المُسلِمينَ
انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ إنَّهُ من نُورِ رَبِّ العَالمَيِـنَ) (
فابن مقانا يشبّه إدريس بن يحي بالشمس المشرقة التي تحجب العيون عن الناظر إليها، وذلك أن ممدوحه كان يستمع إلى الشعراء من وراء حجاب، فلما أنشده الشاعر بهذه الأبيات وأضفى عليه أفضل الصفات أمر برفع حجابه حتى ينظر إليه، وأضفى عليه بالغ نواله وعطائه.
ومنها ما قاله أبوحفص بن شهيد في المعتصم بن صمادح :
وأَحْسَنُ مِنْ رَوْضٍ تَحَلَّى بِنَوْرِهِ مُحَيَّا ابْنِ مَعْنٍ فِي حُلِّي الفَضَائِلِ
جَوَادٌ كَأَنَّ الأَرْضَ جَمْعَاَءَ رَاحَةٌ لَهُ وبُحُورَ الأَرْضَ خمَْسُ أنَامِـل
جَلَلْتَ فَجَلَّ القَوْلُ فيكَ وإنمَا يُقَدُّ لِقَدْرِ السَّيْفِ قَدْرُ الحَمَائِلِ) (
كما بالغ ابن حصن في ذكر صفة الكرم في ممدوحه، إذ ارتقى به إلى التشبه بالبحور الزاخرات، وشموخ غرته وكبريائه بالجبال.
يَدٌ تَسَعُ الدُنْيَا بِمَا وَسِعَتْ وَلاَ أُحَاشِي بِهَا بَّرًا وبَحرًا وسَاحِلاَ
يَقِلُّ أَبَانٌ أنَ يَرَى فَصَّ خَاتَمٍ لهَاَ والبحُورُ الزَاخِرَاتُ أنَامِلاَ) (
أما الأعمى التطيلي فيذكر أن جود وكرم علي بن يوسف فياض غير متناه مشبها إياه بالبحر الممتد الذي مهما اغترفنا منه لا ينقص:
سَلْ البَحْرَ عَنْ جُودِهِ إذِ طَمَا وشَطَّيهِ عَنْ بَأْسِـهِ إذَ أَطَلْ) (
وقوله :
جَوادٌ بالدِيَّارِ ومَا حَوَتْـهُ ولَوْ أَنَّ الزَمَانَ بِهَا ضَنِيـنُ
قَدِ اهْتَزَّتْ بِأَنعُمِكَ اللَّيالِي كَمَا تَهْتَزُ بالثَّمَرِ الغُصُونُ) (
بينما محمد عبد الله بن واجب أشاد بملك علي بن يوسف إذ اصطفاه الله من أمة محمد، فنصره وأيده حتى صار ملكه مضرب المثل وجوده وعطاؤه متفشيا في المجتمع، ثم أثنى على شجاعته وبأسه في مواجهة الرزايا والخطوب؛ يقول :
لَقَدْ نَصَرَ الرَحْمَـنَ أُمَةََََ أَحْمَـدٍ بِمُلْكِ عَلِيٍّ بينَ شَرقِ ومغْـرِبِ
هُوَ المَلِكُ الأَعْلَى الذِي امْتَدّ ظِلُهُ وفَاضَ ندَاهُ الغَمْرُ فِي كُلِّ مَذْهَبِ
إذَا اطَّلَعَتْ سُودُ الخُطُوبِ فَإنَّنَا لَنَلْمَحُ مِنْ أَضْوَائِهِ نُورَ كَوْكَبِ) (
كما مدح ابن خفاجة الأمير ابراهيم بن يوسف بن تاشفين مبرزا كرمه ونبل أخلاقه، يقول:
غَشِيتُ بِه أَنْدَى مِن المُزْنِ رَاحَةً وأَطَيبَ أَفْيَاءً وأَمْرَعَ مَرْتَعَـا
طَمَى الجُودُ فِي يُمْنَاهُ بَحْرًا وإنمَّا تَدَفَّـقَ في أَرْجَائِهَا فَتَدَفَّعَا) (
منها أيضا ما مدح به الأمير ابن تفلويت :
قَـومٌ إذا انْتَقَبُوا رَأَيْتَ أَهِلَّـةً وإذَا هُمُ سَفُروا رَأَيْتَ بدُورًا
لاَ يَسْأَلُونَ عن النَّوَالِ عُفَاتَهُـمْ شُكْرًا ولاَ يَحْمُونَ مِْنهُ نَقِيرًا
لَوْ أَنَّهُمْ مَسَحُوا عَلَى جَدْبِ الرُّبَا بِأَكُفِّهِم نَبَتَ الأَقَاحُ نَضِيرَا) (
يقف ابن خفاجة مادحا المرابطين، فوجوههم أهلة حين يضعون النقاب، أما إذا أسفروا فهم بدور، ثم يثني على كرمهم الفياض الذي لا ينتظرون من ورائه جزاء ولا شكورا، فهم يجودون بكل ما يملكون، ثم يبالغ في ذكر كرمهم وفضلهم الذي إذا مس أرضا مجدبة أصبحت خضراء نضرة. ومنها ما قاله أبو العباس بن سيّد اللّص في كرم الأمير بن مزدلي الذي يبادر بكرمه إلى المحتاجين قبل أن تمتد أيديهم إليه، فهو مثال للأمير المعطاء:
وَمَا أغْنى السُّؤَالُ لَكُمْ نَوَالا وَلكِنْ جُودُكُمْ أضْنَى السُّؤَالا
نَوَالٌ طَبَّـقَ الآفـاقَ حتَّى جَرَى مَثَلا بها وَغَـدَا مِثَالا ) )
كما أثنى أبو الحكم عمرو بن مذحج بن حزم الأشبيلي على كرم الوزير أبي العلاء بن زهر وجوده الذي يستنجد به كل محتاج، فيعطي دونما بخل أو حرص، يقول:
وَضَحَى البَحْرُ هَيْبَةً لَكَ لَمَّا جِئْتَـهُ سَالِكًا عَلَيْهِ طَـِريقَـا
غَمَرَتْهُ مِنْ رَاحَتَيْكَ بِحَـارٌ صَاحَ مِنْ مَوْجِهَا الغَرِيقَ الغَرِيقَا) (
وقال فيه الأعمى التطيلي :
ارْكَبِ إلى المَجْدِ أنضَاءَ الأَعَاصِيرِ وَجُبْ مَعَ السَّعْدِ أَحْشَاءَ الدَيَاجِيرِ
وَمُدَّ بِالجُودِ كَفًّا رُبَّمَا وَسِعَـتْ مُلْكَ الأَنَامِ وتَصـْرِيفَ المَقَـادِيرِ
وجَرِّدِ السَيْفَ مَطْرُورًا تَصُولُ بِه يَمِينُ عَزْمٍ كَحَدِّ السَيْفِ مَطْـرُورِ
ذَا رَوْنَقٍ لَوْ تُوَاتِيهِ المنُىَ لجَـَرَى مَعَ السَّمَاحِ عَلَى تِلكَ الأَسَارِيـرِ
وَنُبْ عَنْ الدِّينِ والدُّنْيَا فَقَدْ بَرِئَا إِلَيْكَ مِـنْ كُلِّ تَقْدِيمٍ وتَـأْخِيـرِ
أَشْبَهْتَ آباءكَ الصِّيدَ الذِينَ سعَوا في البَأْسِ والجُودِ سَعْيًا غَيْر مَكْفُورِ
مِن كُلِّ ذي أثَرَ في كُلّ حَادِثَـةٍ يَسْمُو بِهِ كُلّ فَخْرٍ عَنْكَ مَأْثُورِ) (
رابعا: الحق والعدل والشرف والمجد:
من الخصال الحميدة التي لاقت رواجا كبيرا عند الشعراء هي إضفاؤهم على ممدوحيهم صفة العدل والحق والشرف والمجد، حتى لا نكاد نلمس غيابها عند أحد من الممدوحين، كقول أبي الوليد حسان بن المصيصي، مادحا المعتمد بهذه الخصال:
مَلِكٌ تُوَاصِلُهُ الدُّنـيا ويهجُـرُها سِرًّا وَيَلْبَسُ تقْـوَى اللهِ في الْحُلَلِ
لا تَحْمَدَنْ زُهْدَ مَنْ لا يُعْطِ رَغْبَتَهُ لِعِلَّةٍ غَـضَّ مِنْ جَفْنَيِه ذُو الْحَوَلِ
وَكْم لَهُ سُنَّةٌ ضَاءَ الزَّمَانُ بِـهَـا ضَوْءً بلا لهبٍ كالشَّمْسِ في الطَّفَلِ
تَنْهَاهُ عِفَّتُـهُ عـنْ أَمْـرِ بَطْشَتِهِ فَالمُشْتَرِي عـندهُ قَاضٍ على زُحَلِ
يطوي على نُورِ إِيمَانٍ جَوَانِحَـهُ والنفسُ مِنْ كَوْكَبٍ والجِسْمُ من رَجُلِ) (
وهذه الأبيات تعطي صورة مشرقة عن حياة المعتمد إذ تتمثل فيه العزة والإقدام والعدل والإباء.
ومن الملوك، نجد علي بن يوسف الذي تمتع بكثير من الخصال التي أحلته مكانا طيبا في نفوس رعيته، فقد كان "حسن السيرة، جيد الطوية، نزيه النفس بعيدا عن الظلم". ) (
أما أبو الحسن بن الجد فقد ارتقى بيوسف بن تاشفين في مدحه له إلى مرتبة الخلفاء الراشدين، فشبه شجاعته وعدله وإقدامه بعمر بن الخطاب في قوله :
وَانْظُرْ إلى الصُّبْحِ سَيْفًا في يَدَيْ مَلَكٍ في الله مِنْ جُنْدِهِ التَأْييدُ والظَفر
يَرْعَى الرَعَايَا بَطَرْفٍ سَاهِرٍ يَقِـظٍ كَمَا رَعَاهَا بِطَرَفٍ سَاهِرٍ عُمَر) (
ومنها ما قاله أبو بكر رحيم في إبراهيم بن يوسف بن تاشفين مشيدا بعدله:
آيَاتُ عَدْلِكَ تُتْلَى وَهْيَ مُعْتَبَرَ سِرُّ لَكُمْ في ضَمِير الدَّهْرِ مَكْتُوم) (
وقال أيضا:
قَسَّطْتَ عَدْلَكَ بَيْنَ النَّاسِ فَاعْتَدَلُوا ولِلْمَمَالِكِ تَقْسِيطٌ وتَقْسِيـمُ) (
أما ابن الحداد، فيقول في وجوب التزام العدل والحق:
والعَدْلُ أَلْزَمَ مَا تُعْنَى المُلُوكِ بِه فَلْيَزْجُرُوا عن سَيْلِ الحَيْفِ ولْيَزْأرُوا) (
وينوه ابن الزقاق بعدل أحد القضاة وقد سماه أبا الفضل:
قَاضٍ إذَا يَمَّمْتُ عَدْلَ قَضَائِهِ لمَ ْ أُعْطِ جَوْرَ الحَادِثَانِ قِيَادِي
مُتَواضِعٌ والله يَرْفَـعُ قَـدْرَهُ عَنْ أَنْ يُقَاسَ بِسَائِرِ الأَمْجَادِ
مَا قُلِّدَ الأَحْكَامَ دُونَ تُقًى وَهَلْ يُتَقَلَّدُ الصَّمْصَامُ دُونَ نِجَادِ) (
خامسا: الحرص على تطبيق الشرع:
وذلك بعدم استباحة حدوده والاجتهاد في إقامة دعائم الدين وإشعار ما أنكر، لذا نجد ابن زيدون يشيد بممدوحه الذي عمل على تحطيم حصن الخمر وتحريم شربها، قال:
أَبَاحَ حِمَى الخَمْرِ الخَبِيثَةِ حَائِطًا حِمَى الدِّينِ مِنْ أن يُسْتَبَاحَ لَهُ حَدُّ
فَطَوَّقَ بِاسْتِئْصَالِهَا الِمصْرَ مِنَّةً يَكَادُ يُؤَدِّي شُكْرَهَا الحَجَرُ الصَّلْدُ) (
وابن دراج يتوجه إلى ممدوحه بالبشرى إذ هو خليفة الله في الأرض، فوجب عليه حماية الدين والسهر من أجل تطبيق شعائره:
فَابْشِرْ فَقَدْ نَبَّهْتَ نَائِمَةً المُنَى وَنَظَمْتَ دِينَ الله خَيْرَ نِظَامِ
وَقَرَرْتَ عَيْنًا بِالذِّي قَرَّتْ بِه عَيْنُ الزَمَانِ وأَعْيُن الِإسْلاَمِ) (
وكثيرا ما يشيد الشعراء بممدوحيهم إذ قضوا على الفساد بإقامة حدود الله، كقول ابن الفزاز :
جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا عَنْ بِـلاَدٍ مَحَا عنهَا الفَسَادَ بكَ الصَّلاَحُ) (
سادسا:عزّة النفس والإباء والأنفة:
وهي صفات تحفظ للإنسان ماء وجهه وتصون كرامته، لذا جاء الإسلام داعيا إلى الالتزام بها، ناهيا عن الخضوع والتذلل من أجل العرض الزائل، وفي ذلك يقول ابن عبد البر القرطبي :
تَعَفُّفُ المَرْءِ فِـي سُؤَالِـهِ وكَسْبُه الحَلَّ بـاحْتِيَالِـهِ
وسَعْيُهُ في صَلاَحِ عَيْـشٍ لِمَنْ يُوَارِيـهِ مِـنْ عِيَالِهِ
مُـرُوَءةٌ وبَـالِـغٌ بـِهَا مَنْ يَبْلُغَهَا مُنْتَهَى كَمَالِـهِ
وَمَنْ يَصُنْ وَجْهَـهُ يَزِنـْهُ صِيَانَةُ الوَجْهِ مِنْ جَمَالِـهِ
رِضَى الفَتَى بِالقَضَـاءِ عِزٌّ وَِذِلَّـةُ الوَجْهِ ِفي ابْتِذَالـِهِ) (
منها ما قاله ابن حصن مادحا به إسماعيل بن عباد مشيدا بعزة أبائه العبابدة، وحسن مسعاهم وأمجادهم الظافرة :
نَمَاهُ إِلَى العَلْيَاءِ آبَاءُ عِـزَّةٍ رَأَى حُسْن َمَسْعَاهُمْ فَمَا زَالَ يَحْسِنُ
مَيَامِينُ أَمْجَادٌ مَآمِينُ لمَ ْتَكُنْ وَقَائِـعُهُمْ ِفي كُـلِّ هَيْجَاءَ تُؤْمَـنُ
تَرَقْرَقُ مِنْهُم بِالسَّمَاحَةِ أَوْجُهٌ وَتَنْثَـالُ مِنْهُمْ بِالفَصَاحَةِ أَلْسُـنُ) (
منها قول أبي محمد غانم بن وليد:
لاَ يَرْتَضِي حُرٌّ ِبمَنْـزِلِ ذِلـَّةٍ إِنْ لمَ يَجِدْ ِفي الخَافِقَينَ مَقِيلاَ
فَارْضَ العَلاَء لِحرُّ نَفْسِكَ لاَ تَكُنْ تَرْضَى المَذَلَّةَ مَا حَييتَ سَبِيلا) (
ويتحدث ابن عبدون ممجدا النفس الأبية في قوله:
وَقَدْ ضَمَّتْ جَوَانحُنَا قُلُـوبًا أَبَتْ غيَرَ القُصُورِ أَوالقُبُـورِِ
إِذَا الكُرَمَاءُ نَامَتْ فَوْقَ ضَيْمٍ فَمَا فَضْلُ الكَبِيرِ عَلَى الصَّغِيرِ) (
كما تأتي قصائد ابن حزم كأرقى النماذج المشبّعة بالقيم النبيلة، فروحه كلها عزم وإباء، ونفسه كلها رفض لمظاهر الخنوع والخذلان، إذ يمكننا أن نلمس ذلك في قوله:
وَمَالي عَمِيمٌ لسْتُ أَخْشَى نَفَادَهُ بِإِنْفَاقِـهِ لا بَل يـزِيُد وينْـصَبُّ
سَموتُ بنَفْسي لا بمَجْدٍ هَوَتْ به مِنَ الزَّمـنِ العدَاءُ آلاتِـه الحُدْبُ
يُسافرْ إلي حَيْثُ سافرتُ ظَاعنًا ويُضْحِيني حيْثُ استَقَلَّت بيَ النُّجْبُ
أنا الشَّمْسُ في جوِّ العلُومِ منِيرةٌ ولكنَّ عَيْبي أنَّ مطْلَعِيَ الغَـرْبُ) (
ويفضل ابن عبد البر الرحيل لما رأى من أهله الجفاء والجحود، فصونا لكرامته وحفظا لماء وجهه، فضّل الابتعاد مصورا ذلك في قوله:
وَقَائِلَـةٍ مَالِـي أَرَاكَ مُرَحَّـلاً فَقُلْتُ لهَاَ صَهْ وَاسْمَعِي القَوْلَ مُجْمَلاً
تَنَكّـَرَ مَنْ كُنَّا نُسّـَرُ بِقُرْبِـهِ وَعَـادَ زُعَافًا بَعْدَمَا كَـانَ سَلْسَـلاَ
وَحَقٌّ لِجَارٍ لمَ يُوَافِقـْهُ جَـارُهُ وَلاَ لاََمَـتْهُ الـدَّارُ أَنْ يَـتَرَحَّـلاَ
بُلِيتُ ِبحمـْصِ وَالمَقَامُ بِبَلْـدَةٍ طَوِيلاً لَعَمْرِي مُخْلِقٌ يُورِثُ البـَلاَ
إِذَا هَانَ حُرٌّ عَنْ قَـوْمٍ أَتَاهُـمُ وَلمَ يَنَأْ عَنْهُـمْ كَانَ أَعْمَى وَأَجْهَـلاَ
وَلمَ تُضْرَبِ الأَمْثَالُ إِلاَّ لِعَالِـمٍ وَلاَ عُوتِبَ اِلإنْسَـانُ إِلاَّ لِيَعْقَـلاَ) (
سابعا: إنكار الأخلاق السيئة:
فإلى جانب الدعوة إلى التمسك بالأخلاق الفاضلة، أنكر الشعراء التحلي بالصفات الدنيئة، فذموها وطالبوا باجتنابها ما وسع الأمر، منها:
1- زلات اللسان:
وفيها توجيه إلى استخدام اللسان فيما قدر له، وأن يتجنب المرء الوقوع في زلاته إذ به يعرف للإنسان قدره. ويأتي أبوالحسن بن الجزار في طليعة الداعين إلى حفظ اللسان ، مبينا أن الحكم على رجاحة عقل الإنسان إنما تكون بعد الاستماع إليه:
إِيَّاكَ مِنْ زَلَلِ اللِّسَانِ فَإِنَّمَا عَقْـلُ الفَتىَ ِفي لَفْظِهِ المَسْمُوعِ
فَالمَرْءُ يَخْتَبِرُ الإِنَاءَ بِنَقْـرَةٍ لِيَرَى الصَّحِيحَ بِهِ مِنَ المَصْدُوعِ) (
وابن حمديس مثال للشاعر الذي يطلب من الإنسان تقييد لسانه خوفا من الوقوع في الخطأ إذ يقول:
لِسَانُ الفَتىَ عَبْدٌ لَهُ ِفي سُكُوتِهِ وَمَوْلًى عَلَيْهِ جَائِرٌ إِنْ تَكَلَّـمَا
فَلاَ تُطْلِقَنَه وَاجْعَلِ الصَّمْتَ قَيْدَهُ وَصَيِّرْ إِذَا قَيَّدْتَهُ سِجْنَهُ الفَمَا) (
بينما ابن خفاجة، يرى أن وقوع الإنسان في هفوات اللسان البسيطة قد تجره إلى ما هو أعظم منها، لذا يحذر من زلات اللسان المهلكة، فيقول:
قُلْ مَا تَشَاءُ ِبمَحْفَلٍ أَوْ ِبمَجْهَلٍِ وَاخْزِنْ لِسَانَكَ عَنْ مَقَالٍ يُوبِقُ
إَنَّ الصَّغِيرَةَ قَدْ تَجُّرُ عَظِيمَـةً وَلَرُبَّمَا أَوْدَى بِشَـاهٍ بَيْـدَقُ) (
أما أبو الوليد الباجي فيحذرنا من مزالقه، إذ كل ما يلفظ به الإنسان لديه رقيب عتيد، يقول:
ثُمَّ تُؤْتَى يَوْمَ الكِتَابِ كِـتَابًا نَاطِقًـا بِالفُجُـورِ وَالآثَـامِ
وَأَرَى عَثْرَةَ اللِّسَانِ وَإِنْ لَـمْ تَبْدُ أَنْكَى مِنْ عَثْرَةِ الأَقْـدَامِ
وَأَرَى القَوْلَ كَالسِّهَامِ فَإِنْ كَا نَ قَبِيحًا عَادَتْ عَلَّي سِهَامِي) (
ومنها قول ابن حمديس مطالبا بكتمان السر:
إِنَّ السَّـرَائِرَ عَوْرَاتُ وَإِنَّ لهَاَ مُهْذِّبًا آخِـِذًا بِالحَـزْمِ يَسْتُرُهَـا
فَاطْوِ السَرَائِرَ ِفي الجَنْبَيْن تَحْجُبُهَا عَن اللِّسَانِ الذِّي لِلْسَّمْعِ يَنْشُرُهَا) (
2-ذم البخل:
لقد كان الأندلسيون يكرهون البخل ويذمونه، ويدعون إلى الاستمتاع بالمال، وجعله وسيلة لا غاية، من ذلك قول ذي الرئاسين، أبي مروان عبد الملك بن رزين:
مَنْ كَثَّرَ الجُنْدَ رأَى سَعْدَهُ يَصْعَدُ حَتىَّ يَنْتَهِي حَـدَّهُ
وَمَنْ أَذَّلَ المَالَ عَـزَّتْ بِهِ أَيَّامُهُ وَانْصَرَفَتْ جُنْـدَهُ
فَاهْدِمْ بِنَاءَ البُخْلِ وَارْفُضْ بِهِ مَنْ هَدَّمَ البُخْلَ بَنىَ مَجْدَهُ) (
وقول محمد بن صارة:
اسْعَدْ ِبمَالِكَ ِفي الحَيَاةِ وَلاَ تَكُنْ تُبْقِي عَلَيْهِ حِـذَارَ فَقْرٍ حَادِثِ
فَالبُخْلُ بَيْنَ الحَادِثَيْنِ وَإِنَّمَـا مَالُ البَخِيلِ ِلِحَادِثٍ أَوْ وَارِثِ) (
ومنها قول أبي إسحاق الإلبيري :
وَذِي غِنىً أَوْهَمَتْـهُ هِمَّتُهُ أَنَّ الغِنىَ عَنْـُه غَيْرُ مُنْفَصِـلِ
يَجُّـرُ أَذْيـَالَ عُجْبِهِ بَطَرًا وَيختَالُ لِلْكِبْرِيَاءِ فِـي الحـُلَلِ
بَزَّتْهُ أَيْدِي الخُطُوبِ بِزَّتَـهُ فَاعْتَاضَ بَعْدَ الجَدِيـدِ بِالسَّمَلِ
فَلاَ تَثِـِقْ بِالغَنِـيِّ فَآفَتـ ـه الفَقْرُ وَصَرْف الزَّمَانِ ذُو دُوَلِ
كَفَى بِنَيْلِ الكَفَافِ عَنْهُ غِنىَ فَكُنْ بِهِ فِيهِ غَيْـرَ مُـحْتَفِلِ) (
3-ذمّ العجب:
كالذي نجده عند ابن زيدون في مدحه لابن جهور، مشيدا بتواضعه الذي ما زاده إلا رفعة ومهابة، يقول:
مَهِيبٌ يُغَضُّ الطَّرْفُ منهُ لآذن مَهَابَتُهُ دُونَ الحجَاِب حِجَابُ) (
وعن ابن حمدين القاضي قال أبو حاتم الحجازي:
إِنَّ العُيُونَ َوقَدْ قَرَرْنَ بِعَدْلِهِ لتنامُ وَهُوَ القَائِمُ المُتَّهَجِّدُ
يَنْأَى وَيُدْنِيهِ التَوَاضُعُ منزلاً فَمُقَّرَبٌ ِفي حَالِهِ ومُبَعَّدُ) (
أما ابن عبد البر، فإنه يذم طالبي الرياسة والمجدين في نيلها مبينا ما قد ينجر عنها من مساوئ وأضرار، كقطع الرحم وانتشار البغضاء، وذهاب المروءة، يقول:
حُبُّ الرِّيَاسَةِ دَاءٌ يُخْلِقُ الدِّينَا وَيَجْعَلُ الحُبَّ حَرْبًا للمُحِبِّينَ
يُغْرِي الحَلاَقِمَ وَالأَرْحَامَ يَقْطَعُهَا فَلاَ مُرُوءَةً تَبْقَـى لاَ وَلاَ دِينَا
مَا سَادَ بِالجَهْلِ أَوْ قَبْلَ الرُسُوخِ فَلاَ تَرَاهُ إِلاَّ عَـدُّوًا لِلمُحِقِّيـنَا
يَبْغِي وَيُجِيدُ قَوْمًا هُوَ دُونَـهُم ضَاهَى بذلك أعداء النبيين) (