الثلاثاء، 3 يونيو 2014

التفاوت الطبقي في المجتمع الأندلسي. د/ سامية جباري

عدة تساؤلات قد تتبادر إلى أذهاننا ونحن نستجلي ملامح المجتمع الأندلسي، وننظر في تركيبته خلال الفترة محل الدراسة، أهمها: هل امتاز المجتمع الأندلسي خلال عهدي الطوائف والمرابطين بالتفاوت الطبقي؟ هل المستوى المعيشي لمختلف فئات المجتمع آنذاك تحكّمت فيه عوامل واحدة ومشتركة بحيث لم نجد فرقا بين الحاكم والمحكوم؟ ثم هل مسألة الشرف، والجاه، والنسب، والمال كان لها دورها في التمييز بين هؤلاء جميعا؟
 وإذا كانت معظم مصادر الفترة قد تحدّثت عن وجود فعلي للطبقية آنذاك، فما هي أسسها ؟ وعلامَ ارتكزت؟ ثم ما هي خصوصيات كل طبقة؟
لقد كان للظروف السياسية والاقتصادية دور كبير في صياغة ملامح المجتمع الأندلسي والذي تميّزت طبقاته بالميوعة وعدم الثبات لارتباطها الشديد بوسائل الإنتاج وما يوفّره اقتصاد البلاد. كما أنها خضعت كثيرا لأهواء الأمراء الذين يرفعون أقواما وينزلون آخرين إما بالنكبة أو المصادرة. أضف إلى ذلك التقلبات السياسية وما ينجر عنها من محن ومتاعب، يكون أثرها بارزا في تغيير الوضعية الطبقية؛ ولأجل هذه الأسباب وغيرها يمكننا تحديد طبقات المجتمع كالآتي:
أولا: الطبقة الأرستقراطية:
أو ما نسمّيها بطبقة الخاصة، وهي تضم الأمراء، والوزراء، والكتّاب، والشعراء، والفقهاء، والولاّة، وقادة الجند، والأعيان، فضلا عن "البيوتات الوجيهة المرتبطة بجهاز السلطة". ( )
 ولم تختلف المصادر في التنويه بنفوذ هذه الطبقة في المجتمع، إذ هي الفئة التي تسيطر على اقتصاديات البلاد، وتمتلك ثرواتها، ولها من السلطان والنفوذ ما جعلها "تشكل القطاع المهيمن على مقدرات الشعب الاقتصادية، والمسير لشؤونه المالية" ( )
 فتبوأت المقام الرفيع والجانب المهيب والناظر في العناصر المكونة لهذه الطبقة يجدها عبارة عن شرائح اجتماعية متنوعة شكلت "الثروة والجاه القاسم المشترك بينها" ( ) فقد ملكت الأموال الكثيرة التي تقدر بعشرات الآلاف، وتولى بعض أفرادهـا "الخطط الرسمية واستثمر أموالـه في الصناعة والتجارة" ( )، لهذا نجد ابن قزمان يعبر عن أهمية المال والجاه في صياغة الوضعية الطبقية بقوله:
مَنْ يُعْطِيكُم شَيءْ قَبلَّتُمْ أَيْدِيـهْ   وَمَنْ كَان مَعْدُومْ لمَ ْتَلْوُوا عْليه( )
وقد تمتع أصحاب مراكز القوة هؤلاء بمستويات اجتماعية جعلت منهم "طبقة ممتازة تتمتع بأكبر قدر من خيرات البلاد " ( ).
 وحتى أوضّح جوانب من هذا التمايز الطبقي، رأيت أن أقف عند فئات كل طبقة بشيء من التفصيل:
 1-الحكام  والأمراء والولاة : 
 وما هم في عهد الطوائف سوى تمرّد للأرستقراطية المحلية في مختلف المدن الأندلسية، وشعورها بقدرتها على "الاستئثار بالنفوذ السياسي في مناطقها واستغلالها لمصالحها الخاصة" ( ).
كاستقلال بني عباد في إشبيلية، وبني هود الذين ملكوا الثغر الأعلى بعد التجيبيين حتى سقوط سرقسطة ثم بني طاهر أصحاب مرسية في شرق الأندلس دون أن ننسى موالي بني أمية والذين يمثلهم بنو جهور حكام قرطبة، وبقايا أسرة المنصور بن أبي عامر الذين حكموا بلنسية، كما استأثر الصقالبة بمعظم مدن شرق الأندلس وعلى رأسهم خيران وزهير اللذان حكما ألمرية قبل بني صمادح، ومبارك ومظّفر أميرا بلنسية قبل بني هود ثم البربر الذين اندمجوا في المجتمع الأندلسي حتى لم يعد هناك ما يميزهم عن الآخرين وإن ظلّوا "محتفظين بأنسابهم القديمة" ( ).    
بينما انحصرت السلطة في دولة المرابطين في "يوسف بن تاشفين وبنيه من بعده" ( ) على أن أصحاب السيادة في الدولة المرابطية هم مزيج من قبائل لمتونة، وجدالة، ومسوفة والتي "ارتبطت فيما بينها برابطة القرابة والمصلحة المشتركة" ( ) فاحتلوا بذلك مراكز القيادة العليا في الدولة. وما دام زعيم المرابطين يوسف بن تاشفين من قبيلة لمتونة فقد كان من الطبيعي أن تحتل هذه الأخيرة مكانة مرموقة حيث أن الطبقة الحاكمة في البلاد تنتمي إليها، فصارت لها "الزعامة على غيرها من القبائل" ( ) فعدّ أقرباء الأمير وعشيرته ضمن" طبقة الخاصة" ( ) وأكّد ذلك صاحب الحلل الموشية متحدثا عن يوسف بن تاشفين لماّ دعا أقرباءه "فوفد عليه منهم جموع كثيرة ولاّهم الأعمال وصرف أعيانهم في مهمات الاشتغال، فاكتسبوا الأموال وملكوا رقاب الرجال" ( ) وهذا القول جعل بوتشيش يقرّ أن الدولة المرابطية قامت على أساس احتكار السلطة من قبل الأمير وأقربائه وعشيرته وبالتالي " تطبيق مبدأ استبداد الدولة" ( ) .
 ولا شكّ أن وضعية هؤلاء الأمراء والحكّام مكّنتهم من الهيمنة على مقدرات الشعب إثر تسييرهم لشؤونه المالية فأصبحوا يتمتعون بالثراء الفاحش،  وينعمون بالرخاء الواسع،  ويحيون حياة الإسراف والتبذير.
فبنو عباد الذين حكموا إشبيلية، كانوا قبل توليتهم الحكم يملكون "ثلث كورة إشبيلية" ( )،"ضيعة وغلّة" ( ).
كما يذكر ابن الأبار وغيره أن "بني طاهر الذين تولوا حكم مدينة مرسية كانوا يملكون نصف المدينة" ( ).
أما ابن جهور الذي تولى قرطبة فقد كان "أغنى أهلهـا وأفحشهم ثراء" ( )، والمعتصم بن صمادح كان يمثل قمة الثراء والملكية، بحيث لم تكن توجد "حدود فاصلة بين خزانته الخاصة وبين بيت المال العام، أي خزانة الدولة" ( ). وقل مثل ذلك على "بني الأفطس أمراء بطليوس، وبني ذي النون أمراء طليطلة، وبني هود حكام سرقسطة وغيرهم من أمراء المقاطعات الأندلسية" ( ).
 وإذا ما تصفّحنا المصادر التاريخية نجد أن الدولة المرابطية في بداية نشأتها اعتمدت على "الخشونة والبداوة والتقشف في المأكل والملبس واقتصارهم على الضروري من العيش" ( )، ولنا في يوسف بن تاشفين صورة واضحة المعالم على وفائه لروح العصبية، ومحافظته على الطبيعة الصحراوية والتي تمثلت في تصرفاته كزعيم لهذه الدولة. فقد وصف بأنه "عديم الرفاهية تشبب العيش على قاعدة البربر" ( ). ولا يذكره المؤرخون إلا وذكروا أن طعامه لا يتعدى "خبز الشعير بالماء أو لبن الإبل ولحومها" ( ).لكن الحال لم يدم فابتداءً من إمارة علي بن يوسف وحلول الجيل الثاني من المرابطين الذين تأثّروا بمظاهر الترف التي تربوا في أحضانها، فتغيرت الحال، وبات من المألوف "التأنق في المأكل والملبس" ( ).
ثم قلّدوا العباسيين في اتخاذ السواد لونا لألبستهم والتي شملت "اللّثم  والغفائر القرمزية والعمائم ذات الذؤابات وحملوا السيوف المحلاة" ( ). فيتأكد أمامنا رأي ابن خلدون معلّلا هذا التغيّر بالطبيعة البشرية فيقول: "من طبيعة الناس عموما التطلع إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة"( ).
ثم إن ازدهار التجارة في بلاد الملثمين أدّى إلى ظهور طبقة من الأثرياء تجمعت لديهم أموال عظيمة بسبب نشاطهم التجاري، وعلى رأسهم الأمراء "الذين استأثروا بالحكم  وحافظوا على مصالحهم" ( ) .
لقد نعمت هذه الفئة بأرقى مظاهر الترف منفقة الأموال الباهظة،  ومستغلّة كل الطرق لجلبها رغبة منها في الحفاظ على مكانتها الراقية في المجتمع، وما عصر الطوائف إلا صورة من صور التعسّف في استغلال أموال الرعية بأوجهه المتعدّدة والذي نراه واضحا أيضا مع نهاية عصر المرابطين إثر الفتن والانقلابات التي لحقت بهم في أواخر العصر.
والجدير بالذكر أنّ هذه الطبقة تميزّت بإظهار الأبّهة، و"الإكثار من البذخ المسرف والتبذير المضيّع للأموال" ( )، فقد انغمسوا في حياة اللّهو والأنس "بكل ما تحتويه من نساء، وغلمان، وخمر، وموسيقى" ( ). ثم إنّهم شادوا القصور الباذخة التي أقاموها على الروابي، وعلى ضفاف الأنهار، واختاروا لها "أحسن الأسماء كالثريا، والزاهي، وسعد السعود" ( ).
وفيهم قال أحد الشعراء:
      بَزاهِرها السَّامي الذُّرى جاده     الحَيا تشيرُ الْثرَيَّا نَحْوَنَا ونُشِيرُ
ويَلْحَظُنَا الزَاهي وسعدُ سعُودِهِ     غَيُورَيْنِ والصَبُّ المحِبُّ غَيُور ( )
وقد بلغت هذه القصور منتهى الروعة والجمال. فهذا قصر بن ذي النون "فاق القصور وبلغ منتهى الترف والروعة" ( ). وابن عباد المعتضد الذي ولع "بتشييد القصور، واعتنى بجمع الملابس الفاخرة، والأعلاق النفيسة، واقتنى الخيول السانحة، وأكثر من الغلمان والجواري" ( )، حتى بلغ عدد جواريه "السريّات سبعين جارية" ( ).
 وما هدايا المستعين بن هود إلى يوسف بن تاشفين إلاّ دليل على مدى الثراء الذي وصل إليه فإحداها قدّرت "بأربعة عشر ربعا من آنية الفضة" ( ). ويؤكد صاحب الحلل الموشية أنه كان "يتحف يوسف بن تاشفين ويهاديه بكلّ ما يحصل من لدنه من نفيس الذخائر واليواقيت، والجوهر، ورفيع الدنانير" ( ) .
وهذه الحياة المترفة لم يكن المرابطون بمعزل عنها لاسيما في عهد علي ابن يوسف، فقد تأنّق الأمراء المرابطون في تشييد القصور والمنيات متخذين أبهة الملك فاستكثروا من "القـواد، واتخذوا الطبول والبنود واستركبوا الأغزاز" ( ) وجمعوا فيها كسابقيهم "آيات الروعة، والترف والجمال، وآلات المجون واللّهو والمتاع وفرشوها بالديباج" ( ) ،كما حلّوها بتماثيل الأسود التي ينساب من أفواهها الماء وسط الحدائق الغنّاء، وجلبوا إليهم الخدم، والعبيد، والجواري الحسان لاسيما منهنّ الروميات "اللائي أصبحن حظيات وأمهات أولاد بعضهن" ( ).
أما الولاة فشأنهم في الدولة عظيم إذ كانوا غالبا ما ينحدرون من أسر عريقة، وقد وصل بهم الأمر إلى حدّ التشبه بالملوك والأمراء بل ومنافستهم حتى في مظاهر الأبّهة. فمنهم من اتخذ اللّقب العظيم، ومنهم من نافس باللباس الوثير، ومنهم من تزيّن بالتاج.
فقد أخبرنا ابن الخطيب عن والي سرقسطة أبي بكر بن إبراهيم  وصهر علي بن يوسف أنّه: "أقام بها مراسم الملك، وانهمك في اللّذات، وعكف على المعاقرة، وكان يجعل التاج بين ندمائه ويتزين بزي الملوك"( ).
 ولنا في ابن عمار وزير المعتمد مثال آخر، فحينما أرسله المعتمد إلى مرسية ليدخلها في طاعته، انفرد بحكمها بعدما سوّلت له نفسه فتزيّن بزينة الملوك ودعا لنفسه بها.
2-الوزراء، والكتاب، والشعراء:
من المألوف في أي دولة بعد نشأتها وتدعيم أواصر حكمها أن تستعين بالوزراء لاسيما من الكتّاب، والشعراء، وذلك لحاجتها الملحّة إلى ضبط شؤونها الداخلية والخارجية على حدّ سواء.
فالمكاتبات والسجلات المنظّمة والمسيّرة للعلاقات مع الرعية في أحوالها المختلفة، من إصدار أوامر أو رفع مظالم أو تحديد للواجبات والحقوق خاصة منها الجبائية، فضلا عن الإخبار بوقائع الجهاد والفتوح التي منّ الله بها على المسلمين في هذه الثغور، كان ولابد أن يتولاها "ضليع بالكتابة، فاقترن اسم الوزارة بالكتابة" ( ).
وقد نوّه ابن خلدون بشرف الكتابة، وذكر أن مخالطة الملوك والاقتراب منهم إنما يحدث بها، فالشاعر أو الكاتب لسان حال الدولة في حالتي السلم والحرب فيقول: "فلها بذلك شرف ليس لغيرها "( ).
وهكذا تبرز لنا أهمية الكاتب والوزير الذي أصبح بحكم وظيفته ملازما للحكّام مما يخوّل له عادة تسيير شؤون الدولة، فأضحى وصول الشاعر إلى "المشاركة في توجيه السياسة ببلده أمرا مألوفا" ( )، وسيصيبه بذلك حتما من الجاه والثروة ما لا يمكن إحصاؤه وهذا مقياس يؤهله لأن يكون ضمن فئات هذه الطبقة الأرستقراطية التي بيدها زمام الملك.
ولنا أمثلة عن وزراء كتّاب لمع ذكرهم في تاريخ الأندلس كابن عمار، وابن زيدون، وابن عبدون، وابن أبي الخصال، وغيرهم كثير. حتى أصبح التنافس من أجل الوصول إلى المجد أمرا طبيعيا وواردا، وقد ظهر ذلك جليا في أشعارهم وهذا علي بن محمد بن شعيب يدعونا لصحبة الأدباء الأخيار فبهم تكون الحظوة والمكانة الرفيعة:
علَيك بصُحْبَة الأُدَبَاء يَا مَنْ       يَحَاوِلُ أَنْ يَسُودُ عَلَى الصِحَابِ
فَما في الناسِ أَرْفَعُ مِنْ أَدِيبٍ      ولاَ في الأَرْضِ أَرْفَعُ مِنْ كِتابِ ( )
ويؤكد ذلك ابن أبي الخصال حين يقول: "من جمع بلاغة وخطا لم يخش في دولة الأفاضل حطّا"( ).
كما كان للحكام والأمراء دور كبير في تقريب هؤلاء منهم، فكلما لمع اسم استدعي إلى البلاط ليكون عضد الخليفة فيناله العطاء الوافر.
حيث نسمع أن المعتضد كانت له دار مخصوصة بالشعراء وأنه كان لهم يوم مخصوص يدخلون فيه عليه فيغدق عليهم من الأموال الشيء الكثير وقد روي عن المعتمد أنه أعطى عبد المجيد بن وهبون ألف مثقال حين بلغه قوله:
قَلََّ الوَفَاءُ فَمَا تَلَقَاهُ فِي أَحَدٍ    ولاَ يَـمُرُّ لمِخْلُـوقٍ عَلَى بَـالِ
وصَارَ عنْدَهم عَنْقَاءَ مُغْرِيَةً      أَوْ مِثل مَا حَدَثُّوا عَنْ أَلْفِ مِثْقَالِ ( )
ولما استقرّ أبو الفضل البغدادي عند المأمون بن ذي النون بطليطلة أجرى له ستين مثقالا في الشهر.
كما استدعى يوسف بن تاشفين الكاتب أبا عبد الله محمد بن عائشة وقدّمه على حسابات المغرب ووضع في يديه "مقاليد الأعمال وحكّمه في الأموال" ( ). ثم حذا حذوه ابنه علي فاستدعى إلى بلاطه من أعيان الكتّاب وفرسان البلاغة ما لم تبلغه مدينة أخرى، حتى أن" العاصمة المرابطية  شبهت لذلك ببغداد" ( ).
ومن الكتّاب من كان خامل الذكر لا يؤبه له قد اتّخذ من التجوال وسيلة للتكسب يطوف بين الأمراء والملوك، وقد يتحول أحدهم من حال "التجوال إلى حال الاستقرار والانتماء" ( ). فترفعهم بذلك همة السلطان فتخرجهم من الخمول إلى ذيوع الصّيت ونذكر من هؤلاء الوزير ابن عمّار قبل اتصاله مع بني عباد؛ يقول ابن بسام: "قد امترى أخلاف الحرمان وقاسى شدائد الزمان وبات بين الدكّة والدكان، واستحلس دهليز فلان وأبي فـلان" ( ).
لكن سرعان ما تغيرت حاله لما كان يملك من نزعة وصولية جعلته ينافس الأمراء محاولا الاستقلال بمرسية. ثم ابن شرف القيرواني الذي أتعبه الطواف وفضّل الاستقرار ببلد ابن ذي النون الذي أكرمه وبوّأه مكانة عالية ونجد ذا الوزارتين أبا بكر بن القصيرة الذي استدعاه يوسف بن تاشفين "وولاّه كتبه ودواوينه، ورفع شأنه حتى أنساه زمانه" ( ). و"محمد بن عائشة الذي حالفه الحظ وارتقى على أيدي المرابطين فعظم قدره وعلا ذكره" ( ).
وقد يرتقي الكاتب والوزير إلى ذلك الدبلوماسي الذي يضطلع بمهام السياسة على المستوى الدولي. فقد كان ابن عمار سفير المعتمد بن عباد إلى ألفونسو، كما كان أبو بكر بن القصيرة "سفير يوسف بن تاشفين إلى ملوك الطوائف إذ قام بمهمته الدبلوماسية أحسن قيام" ( ).  
ومن الملاحظ أن بعض الوزراء وهم أعضاء في السلطة الحاكمة ينتمون إلى ولاة الأمر حيث نجد يوسف بن تاشفين  يتّخذ "سير بن أبي بكر وزيرا لـه" ( ).
فانتماء الوزراء والكتاّب والشعراء إلى الطبقة الحاكمة جعلهم ينعمون بالعيش الرغيد في ظلّ الهبات والأعطيات التي كان يغدقها عليهم الملوك والأمراء "فتكدست لديهم الثروات، وقصدهم شعراء التكسب وأقاموا بالقصور الفخمة" ( ) والدور الواسعة المحاطة بالحدائق الغناء وفي حضرتهم الجواري والغلمان.    
   3- الفقهاء:
لقد تمتع الفقهاء بمكانة خاصة في المجتمع الأندلسي، إذ مثّلوا القوة الروحية التي تعتمد عليها الدولة في إرساء قواعد حكمها منذ دخول الأمويين الأندلس حيث استمدوا مكانتهم مـن "كونهم حفظة للدّين وحملة للشريعـة" ( ).
واستطاعوا بذلك أن يكسبوا إجلال العامة واحترام الدولة التي اعتبرتهم أكبر عضد لها، فهم الأئمة، والفقهاء، والقضاة، والخطباء، والمفتون، والمستشارون العدول... فمنحوهم الأعطيات وقربوهم إليهم وأنزلوهم المراتب العليا وأسندوا إليهم الوظائف الهامة.
فها هو المقري يؤكّد أن "سمة الفقيه عندهم جليلة" ( ) ثم إن معظم المصادر أفاضت بذكر جلالة وعظمة هؤلاء الفقهاء فنعتوا بـ"سموّ الرئاسة"( )، و"الحظوة  والعزة والرفعة"( )، ونالوا بذلك مكانة عظيمة لدى الملوك حيث نجد في مقدمتهم ملوك الطوائف الذين حاولوا إضفاء صفة الشرعية على حكمهم فبذلوا جهدا غير يسير في "إرضاء علماء الدّين وتقريبهم لتحقيق غرضهم" ( ).
 أما المرابطون فقد كانت دعوتهم قائمة أساسا على الدّين والعقيدة، وقد كان رباط عبد الله بن ياسين المحضن الأوّل الذي تعلموا فيه المبادئ القويمة والعقيدة السليمة ومن هنا فإن القائمين على شؤون الدّين والمشتغلين بعلومه "احتلوا مكانة مرموقة في المجتمع" ( ).                  
ثم إن يوسف بن تاشفين عرف بتعلّقه بالفقهاء لذلك "أجرى عليهم الأرزاق من بيت المال طوال أيامه" ( ).
كما عرف عنه أنه "يميل إلى أهل الدّين والعلم ويكرمهم" ( )، وكان "يفضّل الفقهاء ويعظّم العلماء ويصرف الأمور إليهم ويأخذ فيها برأيهم ويقضي على نفسه بفتياهم" ( ).
ثم اتّبعه في ذلك علي فلم يكن "يقطع أمرا في صغيرة أو كبيرة حتى يشهد أربعة من الفقهاء، فعظم شأنهم وزادت رفعتهم فبلغوا في أيّامه مبلغا عظيما" ( ). ولم يكن ذلك قاصرا على فقهاء المغرب بل حتى علماء الأندلس الذين توجهوا إلى مراكش عاصمة المرابطين، فانقطع إلى أمير المسلمين من الجزيرة من أهل كل علم فحوله، حتى "أشبهت حضرته بحضرة بني العباس في صدر دولتهم" ( ). فنتج عن ذلك أن كثرت أموالهم واتّسعت مكاسبهم، "فانصرفت وجوه النّاس إليهم متقرّبة مستشفعة" ( ). وهم بدورهم "وضعوا أنفسهم في خدمة الأرستقراطية الحاكمة وسندوها عند العامة" ( ).
فهذه الثروات التي اكتسبوها والجاه الذي احتموا به أعطاهم مكانة اجتماعية ونفوذا قلّ نظيره، حتّى أنّ بعضهم صاروا "يدخلون المدن دخولا رسميا يشبه دخول الأمراء" ( )، وأكثـرهم يؤثّرون في "مجريات الأمور بالدولة" ( ).
فابن عباد استدعى المرابطين للأندلس بعد مشورة الفقهاء الذين سعوا بقرارهم إلى تخليص الأندلس من أيدي النصارى الذين تكالبوا على الدولة الإسلامية فتوالت انتصاراتهم وتوالت معها هزائم المسلمين. وما إحراق المعتضد بن عباد "لكتب ابن حزم الظاهري إلاّ إرضاء لرجال الدين المالكيين وعلى رأسهم الباجي" ( ).
ثم إن يوسف بن تاشفين بعد جوازه الأندلس وتيقّنه من فساد ملوك الطوائف لم يجرؤ على "انتزاع الملك منهم إلا بعدما استفتى الفقهاء" ( ) . بل عمد إلى "استطلاع رأي أشهر فقهاء المشارقة" ( ) في هذا الحكم في جملتهم الغزالي والذين أفتوه بوجوب خلعهم.
ثم نجد مشورتهم له بلزوم طاعته للخليفة العباسي، وأن يأتيه التقليد رسميا فيستكمل شرعيته ففعل ثم كانت فتواهم بتغريب النصارى المعاهدين على إثر خيانتهم للعهد ومن أشد فتاويهم ما تعلق بإحراق كتاب الإحياء للغزالي. فأصبحوا كما قال المراكشي: "لهم تدخل في كل شؤون الدولة" ( )  وأصبحت "كلمتهم هي العليا" ( ).
وهكذا كان الدين سببا في أن ينال الفقهاء والعلماء الحظوة عند الأمراء والملوك كما نالوا بها الجاه والثروة التي تعددت مصادرها فهي إما من "الهبات والأعطيات التي يغدقها عليهم ولاة الأمر" ( ) أومن الثروات العقارية التي اكتسبوها من الأمراء، فقد عرف إبراهيم بن ميمون الحضرمي بأنه "ذو نباهة وثروة" ( ). وحظي أبو بكر بن خلف الأنصاري بخدمة السلطان  "فنال دنيا عريضة واعتقل أموالا جليلة" ( ).
أما الفقيه ابن الجد فنال "دنيا عريضة واستفاد ثروة عظيمة وإليه كانت رياسة بلده والإنفراد بها" ( ).
ونلمس مظاهر ترفهم وبذخهم مما تزخر به المصادر ويكفينا في ذلك أنهم "سكنوا الدور الفخمة وأحيانا القصور" ( ). ونعموا في ظلّ ذلك بكل أسباب الرفاهية "من جوار حسان ومن تأنق في المأكل والملبس" ( ) فضلا عن "امتلاكهم العبيد والمماليك" ( ) وهكذا تحوّلت حال الكثير منهم من "الفقر والضنك إلى اليسر والرخاء نتيجة اتصالهم بالخلفاء والأمراء" ( ).
فقصدهم الشعراء وارتموا على أبوابهم فأصبحوا بين مادح لنعمائهم وقادح لجفائهم. ونحن نستطلع أخبار الفقهاء يجدر بنا أن نشير إلى وجود صنف آخر منهم لم ينتجعوا أبواب الحكّام والملوك وفضّلوا العزلة وهؤلاء وصفهم صلاح خالص "بالمخلصين لمبادئهم الدينية وخصّ بالذكر ابن حزم وغريمه في آرائه الدينية أبو الوليد الباجي" ( ).
وفريق آخر ناقم على الحكم وأساليبه وهو الذي عرّض نفسه بسبب موقفه العدائي من الحكّام إلى غضبهم وانتقامهم كما حدث للفقيه أبي الحسن الهوزني الذي قتلـه المعتضد، "نتيجة تنبيهه للخطر الذي يتهدد البلاد" ( ).
ونقمة بعض الفقهاء على الحكام أدّت بهم إلى إعلان الثورات والفتن قصد الاستقلال ببعض مناطق النفوذ وهذا ما نلحظه كثيرا مع نهاية العصر المرابطي والمتمثل في حركة المريدين.
فنجد الفقيه ابن حمدين قد "صارت إليه الرياسة عند اختلال أمر الملثّمين" ( ) ثم تعدى ذلك بأن لقّب نفسه "بأمير المسلمين وناصر الدين" ( ).
ويضيف ابن الخطيب مؤكّدا أنه اتّخذ رسم الملك ودوّن الدواوين وجنّد الأجناد ورسم الخطط، و"خاطب العصاة بالأندلس فاستقلوا ببلادهم واعترفوا ببيعته" ( ). وغيره كثير ممن فتنوا في أواخر العهد المرابطي بإعلانهم الثورات وخروجهم عن الطاعة.
إلى جانب هؤلاء نجد فئة زهدت في هذا كلّه وهم أقلّية "رفضوا تولّي مناصب القضاء وتعيّشوا بحرف متواضعة" ( ) كعبد الله بن الحسن التميمي وعلي بن أحمد بن الباذش، وأحمد بن محمد بن عبد الرحمان الأنصاري الذين أثنت عليهم المصادر بأن كانوا أهل تقوى وورع ومحبة من الخاصة والعامة.
    4-العائلات الوجيهة:
وهي الأسر العريقة التي حظيت بالجاه والسلطان، وتميزت بمكانتها الرفيعة منذ زمن الأسلاف، وبقيت على ذلك الحال بل ازدادت غنى فشكلت بذلك عنصرا مهما في الطبقة الأرستقراطية وأشهر هذه البيوتات تداولت ذكرها المصادر المختلفة، وخلّدت لنا مآثرها وبيّنت دورها في المجتمع الأندلسي. وما ملوك الطوائف إلا أسر وجيهة ثارت بعيد الفتنة البربرية لتستقّل بمناطق نفوذها.
وقد أدّى استقلال المدن الأندلسية إلى "ازدياد ثروة الأرستقراطية المحلية وتركيزها في أيدي بعض العائلات القوية ذات النفوذ في كلّ من هذه الأقاليم" ( ).
فأبو الحزم بن جهور يصفه المراكشي بقوله: "قديم الرياسة شريف البيت كان آباؤه وزراء الدولة الحكمية والعامرية"( ). كما تمتع إلى جانب ذلك برجاحة عقله، وحسن تدبيره، وبعد نظره في تسيير شؤون الدولة بعد زوال حكم الأمويين.
وبنو ذي النون منهم أبو الحسن يحي بن إسماعيل الملقب بالمأمون، فقد "كان أقدم ملوك الأندلس رياسة وأشرفهم بيتا وأحقّهم بالتقدّم" ( ).
ثم نجد أسرة أبي عامر بن مسلمة تنتمي إلى عائلة من" أشهر العوائل الأرستقراطية في إشبيلية" ( ).
وهو من "بيت شرف باذخ ووزروا للخلفاء وأبعثهم العظماء  وانتسب لهم النعماء" ( ). إلا أن قسوة المعتضد دفعت بابن عامر إلى "الابتعاد عن البلاط والاكتفاء بحياته الباذخة التي تهيئها له ثروتـه الكبيـرة" ( ).
ونجد أسرة بني زهر والزهري التي يحدّثنا عن ثرائها ابن عذاري قائلا:ً "وكان في غاية الجاه والعزّة والتمكين من الدولة يولي من قبله حاكم يحكم من حاشيته وصاحب المدينة من توليته، وشهود البلد بحكمه وأمر المستخلص وأملاك السلطان جارية على نهيه وأمره بمدينة إشبيلية والزهري في كلّ ذلك تلوه ومقتد به" ( ).
ويضيف المقري وابن خلكان أنهم من "بيت علماء حكماء، نالوا المراتب العلية وتقدّموا عند الملوك ونفذت أوامرهم" ( ).
ومن العائلات الشريفة عائلة ابن القوطية أبي بكر "صاحب الشرطة في إشبيلية أثناء حكم المعتضد" ( )، وعائلة ابن الجد ومنهم الفقيه أبو القاسم بن الجد الذي كان "على نباهة الذكر وعلو القدر وشرف من فهم" ( ).  وفي الدولة المرابطية نجد بالخصوص "بني حمدين بقرطبة" ( ) و"بني التجيبي بمرسـية" ( )، و"بني الخزرجي بغرناطة، وبني بشتيـغير بلورقة" ( )، و"بني عبد العزيز، وبني واجب، وبني جحاف، وبني الفرج ببلنسية" ( ).  ومعظم هذه البيوتات اشتغلت بمناصب مهمة في الدولة قد توارثها أبناؤها من بعد، مثل بني واجب في بلنسية الذين عرفوا "بشهرة الذكر وجلالة القدر من بين صاحب أحكام وعلم أعلام ووزير مدير وحسيب شهير" ( ).
كما نجد بني الأفلح الذين بزغ نجمهم منذ عهد بني أمية في الأندلس. فلم يزل منهم "من توالي الأعصار وتصرف الليالي والنهار أعلام علم ودين وأرباب ترفيع وتمكين" ( ).
وقد اكتسبت هذه العائلات مكانتها بفضل ثرواتها العقارية أو رأسمالها المتراكم من "التجارة أو بفضل مكانتها العلمية، ونسبها الشريف الذي درّ عليها مداخيل باهضة أو بسبب احتكارهـا وظائف سامية في جهاز الدولـة" ( ).
ومن هنا يتبين لنا أن الجاه إذا ارتبط بمسألة الشرف وأصالة النسب حقّق لصاحبه مكانة اجتماعية راقية وحسبنا بعض العائلات التي "ورثت مكانتها الاجتماعية من نسبها وشرفها" ( )، فقد عرف عن ابن جحاف أنه "ورث منصب القضاء من أسلافه" ( ) ثم إن رغبة هذه العائلات في توسيع نفوذها الاقتصادي أوجد نوعا من الصراع والتنافس بين العائلات الكبرى على المناصب والمصالح الاقتصادية كما حدث "لأسرتي بني زهر وأصهارهم الزهري" ( ) إذ رمى "كل واحد بصاحبه بقاصمة الظهر" ( ).
ومما لا شك فيه أن هذه البيوتات العريقة قد نعمت بحياة الدعة والترف، فكانت مظاهر الجاه بادية من خلال دورهم الفخمة وتأنقهم في مظاهر الحياة داخلها، كتزيينها "بالبسط الفاخرة والستور الجميلة المصنوعة من الديباج" ( )، والمحاطة بأجمل الحدائق ذات الأشجار والأزهار المتنوعة المزينة بالبرك والنافورات فضلا عن امتلاكهم العبيد والخدم والجواري الملاح أضف إلى ذلك أن هذه الأسر الشريفة لها من الامتيازات مالا يحصى فكانت "تعفى من الضرائب ويمنح لها ظهائر التوقير" ( ).              
ثانيا: الطبقة الوسطى:
لقد تمتعت معظم المدن الأندلسية في ظلّ الملوك والأمراء بتطوّر سريع في مجالات الحياة لاسيما منها الصناعية والتجارية فكان الاعتماد عليهما ضروريا لتحقيق مستوى معيشي يليق بمظاهر الملك فرغم استقلال المدن وانهيارها سياسيا واجتماعيا إلا أن الحركة الاقتصادية فيها ظلت نشطة إذ يذكر ابن عذاري عن بلنسية مثلا أيام استقلالها تحت حكم مبارك ومظفر العامريين أن: "التجارة  والعمران قد ازدهرا في هذه المدينة حتى قصدها كثير من أصحاب الصناعات وعرفاء الحرف والتجارة، فكانت كل صناعة تنفق فيهـا"( ).
 وترتّب على تنوّع النشاط الاقتصادي أن وجدت جماعة كبيرة من الناس وسائل للعيش في هذه المدن على إثر اندماجهم فيها وممارستهم لمختلف الحرف والصناعات "وضمن هذا الخليط يمكن أن نميز مجموعة من السكان نطلق عليهم اسم الطبقة الوسطى" ( ) وقد ضمت هذه الطبقة شرائح اجتماعية متنوعة من "تجار، وصيارفة، وأرباب الحرف، وأصحاب المهن الحرة، ومهندسين، وأطباء فضلا عن أصحاب الوظائف المتوسطة، وأهل العلم" ( ). وتصنيفهم هذا يرتكز أساسا على "مستوى معيشتهم وموقفهم من الأرستقراطية الحاكمة والمصالح التي تربطهم بها" ( ). وقد اتفقت المصادر على كون هذه الطبقة تتميز بمستوى معيشي متوسط لا "يرتفع بها إلى مستوى الأرستقراطية، ولا يهبط بها إلى حضيض الكادحين" ( ). وهي كما وصفها بوتشيش "أسلم الطبقات" ( ).

   1-التجار:
 فهم يشكلون جماعة متميزة ولو أنها غير منعزلة ولا متجانسة حيث تبين المصادر أن هؤلاء الناس كانت لهم اهتمامات تجارية متنوعة، وكانوا يتعاملون بكثير من البضائع المختلفة، مثل "الأقمشة، والمواد الغذائية والتوابل، والأحجار الكريمة، والفراء، والحيوانات، والكتب، والرقيق" ( ). فهم بذلك "الجماعة المسيطرة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا على التجارة الأندلسية" ( )؛ ونميز في هذه الفئة أنواعا من المشتغلين بها فمنهـم "تجار القوافل وتجار الجملة" ( ) أما تجار القوافل فقد سموا أيضا "بتجـار الصحراء" ( )، و"الرحال" ( ) حيث تمثّل جلّ اهتمامهم في قيامهم بعملية التصدير والاستيراد فقد اهتموا "باستيراد الذهب، والجلود، والعاج، وغيرها من بضائع غانا. ويصدرون إليها الملح، والنحاس، المسبوك، والأصداف، وآلات الحديد المصنوع" ( ). فجلب لهم ذلك ثراء واسعا، يصف الإدريسي ثراء أهل أغمات في عهد المرابطين، فيقول: "لم يكن في دولة الملثّم أحد أكثر منهم أموالا ولا أوسع منهم أحوالا وأبواب منازلهم علامات تدل على مقادير أموالهم"( ).
كما عرف تجار قرطبة بالأندلس بأنهم "مياسير لهم أموال كثيرة وأحوال واسعة" ( ). والأمر نفسه نلاحظه عند أهالي ألمرية إذ "لم يكن بالأندلس أيسر من أهلها مالا، ولا أتجر منهم في الصناعات وأصناف التجارات" ( ). أضف إلى ذلك سياسة المرابطين "المشجّعة على التجارة الداخلية في البلاد العربية والأندلسية" ( ). الشيء الذي أسهم في تطور التجارة بتوفيرهم كل السبل التي تحفظها سواءً داخليا أو خارجيا من الأخطار المحدقة بها.
أما النوع الثاني فهم تجار الجملة، وهم الذين يتعاملون مع الأندلس  وأوروبا والمشرق في التصدير والاستيراد، وقد عقد تجار الجملة صلات مع "تجار الجملة الغرباء من المغرب الأقصى" ( )، وأيضا مع غيرهم من البلدان الأخرى. يمكن أن تعتبر هذه التجارة خارجية أو ما يعرف حاليا بالتجارة الدولية حيث يقوم أصحابها برحلات عديدة حاملين بضائعهم بين أسواق الأندلس ومناطق أخرى، فأسهم ذلك في "خلق شبكة من العلاقات التجارية فهم يعملون في أنشطة تجارية مختلفة شملت أيضا التجارة المحلية البسيطة" ( ). وهنا لابد أن نشير أنّ هناك من التجار من استقروا في بلادهم لترسّمهم في "خطط رسمية كالفقهاء والوزراء وعدم رغبتهم في التنقل جعلتهم يستأجرون وكلاء عنهم للقيام بأعمالهم" ( ) .
وقد زخرت كتب النوازل بالمشاكل التي كانت بين الوكلاء وأرباب العمل، مما يدل على نشاط الحركة التجارية وتعقّد سيرها. وإلى جانب هؤلاء نجد تجار التجزئة وهم الذين يعمدون إلى بيع منتوجاتهم إما في محلاّتهم المستقرّة أو عن طريق التجوال في المدينة، قصد تلبية حاجات السكان المختلفة.
والجدير بالذكر أن التجارة في الأندلس لم تكن مقتصرة على المسلمين بل ساهم فيها أهل الذمة بقدر كبير، فبرز منهم تجار أثرياء من يهود ومسيحيين حتى أضحت مدن مثل "ألميرية، وإشبيلية، ومالقة تقوم بدور مخازن التصريف التجارية حيث كان يقوم بأعمال الاستيراد والتصدير تجار مسلمون، ويهود، ومسيحيون" على حدّ قول أولييفيا( ). وقد شكّل اليهود خاصة عنصرا مهمّا في التجارة بالأندلس وكانت لهم الريادة في "الوساطة بين المغرب، والأندلس، ومصر، ودول المشرق، والهند" ( ). فقد اشتهروا إلى جانب المسلمين بتجارة اللؤلؤ، والكتّان، والصوف، والحبوب، والجواري، والحرير، ويأخدون من الأندلس في المقابل القرمز، والورق، والزعفران وغيره.
وهكذا استطاع التجار أن يحققوا لأنفسهم وضعا اجتماعيا راقيا بسبب الثروة التي تحصلوا عليها. وهو ثراء لم يؤهّلهم إلى الارتقاء إلى مرتبة الأرستقراطية من أصحاب النفوذ، والمال، والسلطان وبالتالي لم يؤهّلهم للارتقاء إلى مستوى منافسة هؤلاء على السلطة  وهذا ما جعل صلاح خالص يؤكد أن "ثراء التجار لا يمكن أن يقارن بثراء كبار الملاّكين العقاريين ولهذا لا ينتظر أن ينافسوهم في النفوذ الاقتصـادي أو السياسـي" ( ).
ومن هنا بنيت علاقتهم بالطبقة الحاكمة على أساس المصلحة، بحيث تمثلت مطالبهم في أمور أساسية نحصرها في الأمن الداخلي والسلم الخارجي ثم العدالة إذ كانوا أكثر الناس تعرّضا للأخطار بحكم رحلاتهم وتنقلاتهم بالبضائع في طرق تعجّ باللصوص وقطّاع الطرق الذين كانوا يتربصون بهم الدوائر.
وضمانا لنجاح أعمالهم واستمرار تجارتهم "أيّدوا الطبقة الحاكمة وساندوها طالما حققت لهم هذه المطالب" ( ) إذ أن تحقيقها سيؤدي حتما إلى توسيع النشاط التجاري وبالتالي يعمّ الرّخاء، وتتوفر معه الحاجيات ومن الطبيعي أنه مع "انعدام الأمن الذي يحفظ للتجار أموالهم، والعدالة التي تحفظ لهم حقوقهم، والسلم الذي يضمن أمان الطرق وحرية التنقل لا يمكن أن تزدهر التجارة ولا تتطور فيؤثر ذلك بالضرورة على حركة التجارة وأرباح التجار" ( ). لذلك نراهم سرعان ما ينتقمون من الأرستقراطية الحاكمة إذا ما توانت عن تلبية متطلباتهم السابقة الذكر، ولم تمنعهم جرأتهم بأن يتحالفوا مع أعداء الدولة للإطاحة بهم، والتخلص منهم.

    2-أصحاب المشاريع الصناعية والمهن الحرة:
لقد وجدت الصناعة المحلية بالأندلس أيام ملك الطوائف المجال فسيحا للازدهار لاسيما وقد شهد العصر تنافسا شديدا بين هؤلاء الملوك في اقتناء أفخر اللباس، والأثاث، والحلي، والفرش، وكل ما يلزم مظاهر التأنّق والتفاخر التي أملتها عليهم حياة البذخ والترف لذا سارعت الأرستقراطية في إنشاء القصور والمنيات المزينة بالحدائق والمجهزة بأفخم أنواع الأثاث فضلا عن تأنقهم في المأكل، والملبس، واستعمال الذهب والفضة من الأواني المختلفة، وبسط الفرائش المزخرفة كل هذه التجهيزات إنما يوفّرها أصحاب الحرف، والمهن، والصناعات الذين انتشروا في أرجاء البلاد مساهمين في ازدهار الصناعة المحلية التي كانت الدولة في أمسّ الحاجة إليها، لذلك احتلوا مكانة مهمة وبارزة ضمن فئات المجتمع، "فانتشرت لذلك مصانع الورق، والنسيج، والخزف، والزجاج، والصباغة، وغيرها في الأندلس" ( ).
ويلحق بهؤلاء المهندسون والفنانون والمعماريون الذين اهتمت بهم الدولة كثيرا حيث جلبوهم من مدن مختلفة فحاجة الأمراء إلى الترف والتأنق في العمران، والقصور، والبساتين، وحرصهم الشديد على جلب المياه والإكثار من الحدائق، والمساحات الخضراء جعلتهم "يولون أهمية كبرى للفنانين والمهندسين" ( ). وهذه الفئة بالرغم مما حققته من أرباح وأموال إلا أنها "لم تستطع اللحاق بفئة الأرستقراطية لعدم تمكنها من تكوين ثروات كبيرة" ( ).
كما كان لعامل الحرب دور كبير في انتشار الصناعة الحربية وما تتطلبه من أدوات، ثم حاجتهم الماسة إلى تحصين مدنهم من الغارات الخارجية التي طالما شنّها الملوك على بعضهم البعض أو ما كان يلحقهم من أعدائهم النصارى من ضربات متوالية.
كل هذه العوامل ساهمت في "بعث نشاط الصناعات حتى ارتفعت إلى مستوى التمجيد" ( ) فجلبوا إلى الأندلس أمهر الحرفيين والمهنيين ونقلوا الخبرات الأندلسية إلى البلاد المغربية واستفادوا من أشهر البنّائين والمهندسين مغدقين عليهم الأموال الوافرة. أضف إلى ذلك أن "الثراء الواسع الذي تمتعت به الأرستقراطية" ( ) جعل الصناعة في حركة دؤوب  فلم تكن متطلباتهم لتنتهي، كما كان لتأقلم المرابطين السريع مع مظاهر الحضارة دور كبير في توسيع دائرة النشاطات الصناعية، فقد كانت "الدولة بحاجة كبيرة إلى الصناعات الحربية، ومواد المعمار وأدواته فضلا عما احتاجه الترف الذي دبّ في حياة المرابطين من متطلبات" ( ). وقد تميزت كل مدينة "من المدن الأندلسية بصناعات معينة حيث عرفت ألمرية بصناعة الحرير" ( ) كما أنها "حظيت بشهرة عالمية في صناعة سلع الكماليات" ( ) يؤكد الإدريسي ذلك بقوله: "وكانت ألمرية في أيام الملثم مدينة الإسلام وبها من  الصناعات كل غريبة، وكان بها من طرز الحرير ثمانية أطراز يعمل بها الحلل، والديباج، والسقلاطون، والأصبهاني، والجرجاني، والستور المكللة، والأثياب المعينة والخمر.." ( ) .
وتميزت مرسية "بصناعة أصناف الحلل والديباج" ( ) وتفردت مالقة "بصناعة القلشاني، وغرناطة، وبسطة بالملبد المختم ذي الألوان" ( ) كما ارتبط اسمها "بالطراز البسطي المصنوع من الديباج" ( ). وكانت جيان وهي من أعمال غرناطة تسمى "جيان الحرير  jaen de seda" ( )  وذلك لعنايتها الشديدة "بتربية دودة الحرير" ( ).                                    
كما عرفت "شلطيس بإنتاج الحديد" ( ) الذي يعتبر قاعدة الصناعات الحربية. ووجدت بقرمونة دار للصناعة استمرت "حتى عصر المرابطين كمخزن للسلاح" ( ) .
ويبدو أن حصر أهل كلّ صنعة في سوق واحد مثل سوق الورّاقين، والطوّانين، والفخّارين، والعطارين، والصبّاغين، والدباّغين جعل تنظيم الصنّاع على أساس المهن ميسورا حيث نجد "على رأس كلّ مهنة رئيسا سميّ في الفترة المرابطية بالرئيس أو المقدّم أو العريف المقدّم أو الأمين" ( ).
 ويكون تعيينه عادة من قبل القاضي أوالمحتسب، "وواجبه حل المشكلات بين أهل صنعته، ومساعدة الدولة في كشف أساليب مكرهم، وغشّهم ومراقبة الإنتاج وجودته" ( ).
ولهذا الغرض الموجز تتجلى أهمية هذه الفئة والتي لم تتجاوز متطلباتها  الأمن  والسلم  والعدالة مثلها مثل التجار كما رأينا سابقا.

    3-أصحاب الوظائف المتوسطة:
وهم "المشتغلون في أجهزة الدولة الأقل أهمية من الوزراء والقضاة كصاحب الأحكام، وصاحب المواريث، وصاحب المدينة" ( )، ويضاف إليهم الحرس، والشرطة، وصاحب الأحباس والمحتسب .
وارتباط هؤلاء الموظفين بجهاز الدولة أعطاهم "مكانة وجاها داخل المجتمع" ( ). أما صغار الملاك فهم دائما يتطلعون إلى "زيادة ثرواتهم طمعا في اللحاق بالأرستقراطية الثرية" ( ).
ومهما يكن فإن هذه الطبقة استطاعت أن تلبي حاجيات الأمراء الذين انتهجوا سياسة المآثر بتشييد القصور الفخمة والمني البديعة بما فيها من أثاث، وفرش، وزرابي، وأواني فضية وذهبية، وكل ما يعتبر من مظاهر الأبّهة والترف، ثمّ أنّ هذا النشاط الاقتصادي في المجال الصناعي والتجاري أدّى بطبيعة الحال إلى جمع ثروات هائلة بين أيدي المنتمين إلى هذه الطبقة، والتي كانت مصدرا معتبرا لملئ خزانة الإمارة عن "طريق الضرائب المتزايدة" ( )

ثالثا: طبقة العامة:
شملت هذه الطبقة "السواد الأعظم من الرعيّة" ( ). إذ ضمّت شرائح اجتماعية متنوعة من حرفيين، وعمال، وأجراء، وعاطلين، وعبيد، ومرتزقة، وفلاّحين، ومزارعين، ورعاة ومعلمين، وأئمة. وكلّ أولئك الذين يكافحون من أجل الرزق والعيش البسيط، وأهم ما يميز العامة "مستوى معيشتها المنخفض وسرعة تأثّرها بالأزمات" ( ) لاسيما وأن الحقبة محل الدراسة شهدت فيها الأندلس مجاعات عديدة وأزمات اقتصادية كما شهدت النكبة والمصادرة من طرف الحكام الذين ما فتئوا يمتصون مجهود المعوزين الذين وصل بهم الحال أن "لبسوا الحصر والجلود وأكلوا الحشائش والبقل" ( ). كما اضطروا على إثر المجاعات "أن دفن كل ثلاثة أو أربعة أشخاص في قبر واحد وأن المساجد خلت من المصلين" ( ).
والسمة الغالبة على العامة هي تلك النعوت التي ألصقوها بها، "فاستنزلت عليهم اللعنات ووصفتهم بالأنذال، والسفهاء، والأوباش، والرعاع، والهمج" ( ).
كما وصفوا بالجهل وسذاجة التفكير وقلة الإدراك وأنهم أصحاب قلاقل وفتن. ومهما كانت الصفات التي وصمت بها العامة من الإنصاف أن نؤكد أنها استوحت قناعاتها من الأفكار الدينية والمفاهيم العامة السائدة في المجتمع، والتي "كانت تغذيها الأرستقراطية الحاكمة" على حد قول عصمت دندش( ). فقد آمنوا بالقضاء والقدر، وأدركوا أسباب الخير والشر، واكتسبوا الخبرات التي أضفتها عليهم حياتهم اليومية التي تبدو جلية من خلال كتاب الزجالي الموسوم بري الأوام والذي ضم أمثالا كانت تقولها العامة تماشيا مع الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية آنذاك.
ومع ذلك فقد ظل الفقر سمة عالقة بهم إذ "كانوا مهددين في كل الأوقات بالجوع والعوز والحرمان" ( )، ووصل الأمر في العهد المرابطي إلى "استحداث (وثائق العدم) " ( ) التي كانت تعطى للفقراء والمعوزين حيث أكد ابن عبدون في رسالته ألا تعطى إلا لمستحقيها. إلى جانب ذلك تميزوا بالروح الانتهازية وكانوا لا يتورعون عن السطو على أموال الغير ونهب الحوانيت والدكاكين وحتى القصور بل حتى المساجد إذ يذكر أنهم هجموا على "جامع الزهراء وانتهبوا بسطه وقناديله" ( ). ويمكننا أن نعلل هذه التصرفات بنقمتهم على الأوضاع المزرية تحت ظلّ ملوك وأمراء مستبدين. وهنا تعالت صرخات المحتسبين من أمثال السفطي وابن عبدون الذين صوّروا مظاهر التحايل والخداع والغش الممارس من طرف هؤلاء الحرفيين الصغار والباعة وأهل السوق .... مطالبين بالشدّة في التعامل مهم.
وثمّة حقيقة لابد أن نشير إليها وهي إيمانهم بضرورة السعي من أجل الكسب، فنبذوا الكسل، وسعوا في الأرض يلتمسون مداخل للرزق.  وقد صوّر ذلك اليكي أحد شعراء المرابطين، داعيا إلى الكسب من خلال الحرف معظّما شأنها بقوله:
       قَـالُوا الكِتَـابةَ أََعْـلَى خطّـة      قُلْتُ الحِجَامَة أَعْلَى عِنْدَ أَقْوَام
     لاَ تَحْسِبُوا الْمَجْدَ في طُرْسٍ ولاَ قَلَمِ     المَجْدُ في صُوفَةِ أَوْ مَوْضِعٍ دَامِ ( )
فهو يرى حرفة الحجامة التي مارسها البعض أرفع درجات لأنها تجلب الرزق وإلى جانب الحجامة نجد حرفاً أخرى بسيطة كان يمارسها وهي "حرفة تغسيل الموتى وقراءة القرآن على القبور" ( ). كما وجدت حرف أخرى عدّدها الدكتور حسن علي حسن في كتابه الحضارة الإسلامية في الأندلس منها: "السقّاء، والحمّال، والدلاّل، والبوّاب، والصيّاد، والحلاّق" ( )، ويضيف إلى ذلك د/بوتشيش حرفة "بائعي الحوت، والعطّارين، والصيادلة، وبائعي الأطباق والقدور، والفحم، والخبّازين" ( ). إلى جانب "تدريس العلوم وسرد كتب الوعظ في المساجد، والإمامة، وولاية نظارة، وحسبة، وكتابة عند الملوك، وولاية الأمور الصالحة" ( ). وبهذا نكون قد أحصينا جملة من الحرف البسيطة التي كانت تمارسها العامة بحثا عن الرزق وضمانا لقوت يومهم، وقد تفاوتت درجات رواج هذه الحرف إذ يطلعنا ابن سارة عن كساد سوق حرفة الوراقة في قوله:
  أَمَا الوِرَاقَةُ فهي أَنْكَدُ حِرْفَـةٍ    أَوراقها وثمـارها الحِرْمَـانُ
  شَبَّهْتُ صَاحِبَهَا بِصَاحِب إِبْرَةٍ    تَكْسُو العُرَاةَ وجِسْمُهَا عَرْيانُ ( )
 وثمة طرق أخرى تميّز بممارستها البربر والموالي على الخصوص، فقد اهتموا بأعمال الزراعة وممارسة الحرف المتصلة بها، كاحترافهم "ضفر الحلفة، وخدمة الأوعية -أي السلل- للزرع، والمحاريث ، والبراذع للبهائم" ( )، فجلّ البربر صناع، وعمال، وفلاّحون اتّخذوا المناطق الجبلية الوعرة سكناهم فاندمجوا فيها، "وأخذوا يصلحونها ويغرسون فيها كلّ أنواع الشجر، يربون في أدغالها المواشي حتى أصبحوا مهرة في الزراعة، والفلاحة، وتربية الحيوانات الداجنة" ( ). التي كانت تدرُّ عليهم أموالا تكفيهم قوت عيشهم.                                                                
وفي هذه الأجواء ظلّ الزراع يشكلون قطاعا هاما من العامة لاسيما الوافدين منهم على المدن "لبيع منتوجاتهم الزراعية أو بحثا عن العمل بعد أن ضاقت الآفاق وظروف العيش في البادية" ( )، متحملين وزر سوء الأوضاع والاضطرابات فضلا عن "تعسف المالكين وجور جامعي الضرائب على حد قول ابن عبدون" ( ).  
ومن ضمن الفئات المهمة في هذه الطبقة نجد العبيد والمرتزقة الذين شكلوا السلطة المادية المسخرة بأيدي الأرستقراطية الحاكمة إلى جانب الفقهاء الذين شكلوا بدورهم السلطة الروحية لإضفاء الشرعية على حكمهم. فأكثروا من استخدام العبيد والمرتزقة الذين كانوا عادة من أسرى الحرب أو من الوافدين عليهم من أصقاع مختلفة وقد تمثل دورهم في "تثبيت سلطة الأرستقراطية الحاكمة، وتأكيد نفـوذها، وضمـان تأثيرها الفعال في مختلف مجالات الحياة ولاسيما في المجالين الاقتصادي والسياسي" ( ). فكثر استعمالهم في القصور والدور تلبية لأغراض الحكام والأمراء وذوي السلطات من الطبقة الحاكمة، فكثر جلبهم حتى "ماجت القصور بالنساء، زوجات وإماء، وبالغلمان، والجواري، والرقيق الأبيض المجلوب" ( )  وذلك للخدمـة أو للمتعة والترفيه أو استعمالهـم "كحرس وأدلاء على القـوافل التجاريـة أو لاستعمالهم في الحروب" ( ). فقد عرف عن المعتضد بعد توليه الحكم أن أول ما أقدم عليه أنه "استكثر من العبيد من كل نوع" ( ) وأن يوسف بن تاشفين من أول ما تولى السلطـة "اشترى من عبيد السودان حوالي ألف عبد" ( ) ووجود هؤلاء في بيوت وقصور الأمراء والحكام جعلهم يتمتعون بمستوى معيشي أفضل إلا أن خضوعهم التام إلى ممتلكيهم جعلهم يتجرعون أصنافا من الذل والهوان، حتى منع الناس في العصر المرابطي من مجالسة العبيد والخدم، الأمر الذي تصوره الأمثال الشعبية التي أنتجتها تلك الفترة ومنها قولهم:"من خالط الخدم ندم"( )، "الخديم لا يكون نديم"( ). ومن مظاهر التعسف في حقهم منعهم من "حمل أسماء الأحرار بل يختار لهم اسم من الأسماء الملائمة للرقيق" ( ) كقول العامة في أحد الأمثال: "آش أسود إذا أقل سيدي أحمد"( ).
أما المرتزقة فكل ما كان مطلوبا منهم أن "يطيعوا سادتهم طاعة عمياء وأن يكونوا ممتهنين لصنعة القتـال" ( ) بغض النظر عن انتمائهـم العرقـي أو الديني. أما الجواري فقد تنوعت أصنافهن، فمنهن من جبلت على الخدمة "وهن عادة ممن تجاوزن سن الشباب أو ممن لا يصلحن للمـتعة" ( )  لذا اقتصرت وظيفتهن في تلبية حاجيات البيت والوقوف على متطلباته. بينما الصنف الثاني فهن ممن يطلق عليهن اسم جواري المتعة. ومنهن حظيات وأمهات أولاد. ويستخدمن كما هو واضح من التسمية في تلبية رغبات أسيادهن، و"جلب المتعة لهم بمختلف الوسائل" ( ).
 أما عددهن فيتوقف على ثروة السيد ورغبته في  الاستزادة منهن، فقد ثبت عن ابن عباد المعتمد أنه كان "يملك حين خلع عن العرش ثمانمائة امـرأة" ( ). وأغلبهن يجدن الغناء والموسيقى والشعر، ويتمتعن بثقافة عالية.

رابعا:طبقة أهل الذمة:
أطلق اسم أهل الذمة على "الرعايا غير المسلمين" ( ) من نصارى ويهود الذين عاشوا تحت ظل الدولة الإسلامية محافظين على ديانتهم وتقاليدهم.
لقد شكل أهل الذمة طبقة مهمة في المجتمع الأندلسي، حيث سعى الفاتحون الأولون إلى القضاء على الظلم والاستغلال، ونبذوا الفرقة والخلاف ثم حملوا لواء الحرية والمساواة بين جميع عناصر المجتمع، فشكلوا بذلك نموذجا للتسامح والتعايش بين الشعوب والأجناس من عرب، وبربر، ومستعربين، ويهود ومولدين، وصقالبة وغيرهم من الطوائف التي وفدت من مختلف الأصقاع "لتنصهر ضمن وحدة اجتماعية تميزت بخصائص حضارية مشتركة وانسجام اجتماعي ملحوظ" ( )  لاسيما وأن منطقة الثغر الأعلى كانت "ميدانا خصبا لالتقاء العناصر المسلمة والنصرانية ثم امتزاجها بقوة" ( ). من هنا كانت علاقاتهم بالسكان الأصليين الإسبان واليهود والمسيحيين على السواء تتسم بالتسامح الديني والعقائدي، ومعاملة أولئك السكان نفس المعاملة التي يلاقيها العربي الفاتح، فلا أثرة ولا تفضيل ولا تمايز ولا مفاضلة، بل مساواة في الحقوق والواجبات، وأخوة في السراء والضراء، و"معاملة بالحسنى وعفو عن الزلات، وإغضاء عن السيئات، ورفق في المعاملة، وصدق وإخلاص في العلاقات" ( ).
وقد عرفت هذه الفئة في الأندلس "باسم الأقليات" ( )، واختص النصارى "باسم عجم الأندلس" ( ). كما أطلق عليهم اسم أهل الكتاب الذي يرد بكثرة في نوازل الفترة. وقد تعلموا العربية واستعملوها إلى جانب لغتهم الأصلية فسموا بالمستعربين، ومن الواضح أن "تأثير النصارى واليهود كان قويا في المجتمع الأندلسي طيلة بقاء الإسلام في إسبانيا" ( ) على أن المجتمع الأندلسي لم يعرف التعصب الديني من جانب المسلمين، فقد تركوا لأهل الكتاب من نصارى ويهود حرية العقيدة والتعبد، "وظل العهد الذي أخذه عبد العزيز بن موسى بن نصير على نفسه قبلهم من حرية العبادة والحفاظ على معابدهم قائما طوال عصور المسلمين في الأندلس إلا في حالات قليلة شاذة" ( ). بل إنهم احتلوا مراتب سامية في الدولة وشاركوا بفعالية تامة في الحياة العامة فكان منهم الوزراء، والشعراء، والأطباء، والمهندسون. كما كان من نسائهم حظيات وزوجات وأمهات أولاد، ومن رجالهم عبيد في حاشية القصر أو كجنود مرتزقة في الجيش. على أن الكثيرين منهم بادروا باعتناق الإسلام واجدين فيه خلاصهم. فغدت الغالبية الأندلسية على دين الإسلام كما قرر ذلك المستشرقون وبقي جانب آخر من المسيحيين على دينهم ورضوا بدفع الجزية وتعايش الجميع في غالب الأحيان بسماحة. "فتداخلت المساجد والكنائس وتعانقت نداءات المآذن وأصـوات النواقيـس" ( ) يصور ذلك ابن حزم في شعره بقوله:
     أَتَيْتَني وهلالُ الجوّ مُطَّلِـعٌ     قُبيلَ قَرْع النَصَارى للنَوَاقِيسِ( )
والحقيقة أن أي شعب مغلوب لم يحظ بمثل ما حظي به الشعب الإسباني إبان الحكم العربي من تطبيق المعاهدات المهادنة، وقوانين الإسلام التي أعطت للذميين حقوقهم كاملة في العيش الكريم، ونتيجة لذلك "اقتحم الإسبان الحياة العربية وساهموا في بناء الحضارة الجديدة" ( ).
وحتى تتضح لنا مظاهر التسامح الإسلامي مع أهل الذمة لنا أن نفرد لهؤلاء دراسة خاصة نستجلي من خلالها أهميتهم داخل المجتمع والدور المنوط بهم وتحديد وضعيتهم خلال الفترة محل الدراسة.

أولا: النصارى: 
 إن أول ما يلفت الانتباه عند محاولتنا تتبع المصطلحات التي اندرج خلف معانيها النصارى نجدها كثيرة ومتعددة، حتى أنه ليحدث لنا تشابك في بعض المدلولات وخلط في مفاهيمها. فقد أعلنت المصادر المختلفة عن مجموعة من التسميات التي لحقت بالنصارى عددها (سيمونت simonet) في كتابه المستعربين. ثم حصرها بوتشيش في كتابه مباحث التاريخ الاجتماعي( ) وعدّدها فنجدهم تـارة تحت "اسم الـروم" ( ) سواء أقامـوا في بلادهـم أو "دخلوا دار الإسلام محاربين أو تجارا عابرين أو عبيدا مجلوبين أو عسكرا في جيوش المسلمين" ( ). وأحـيانا لفظ "النصارى أو النصارى المعاهدون" ( ) أو "المعاهدين" ( )  التي شملت النصارى واليهود على حد سواء، كما أطلق على "نصارى الأندلس المحاربين لفظ عجم الأندلس" ( )  أما الذين خضعوا "لأحكام الذمة الروم البلديين أو الروم المعاهدة" ( ) أما ابن الأثير فقد سمّاهم "الممالك الإفرنج والروم" ( ) بينما اكتفى ابن خلكان بذكر" لفظ ممالك" ( )، وابن عذاري "باسم العلوج" ( ) وأضاف لنا الأستاذ "ميكاييل ذي إلبيازا" أسماء لصقت بهؤلاء المسيحيين وحددها بأنها ذات دلالات سلبية جدا أصولها دينية وسياسية كانت تطلق على مسيحيين أفراد من المماليك الإسبانية الشمالية مثل "العدو، عدو الله، الطاغي، المتكبر، المستبد، الثائر، الكافر، المشرك" ( ) .
أما عن أماكن تواجدهم في الأندلس فلأهل الذّمة حضور كبير في سائر المدن الأندلسية فمعظمهم استوطنوا "غرناطة، وإشبيلية، وبلنسية، وإلبيرة، وبطليوس، وطركونة، ومالقة وغيرها كما لوحظ انتشارهم الواسع في الأرياف" ( ) ومهما كانت التسميات واختلفت فإنّ التساؤل الذي يجدر بنا الإجابة عنه: ما هي وضعيتهم في ظل عصر الطوائف والمرابطين؟ هل شكلت هذه الأقلية المسيحية خطرا على الدولة أم كانت عونا وسندا لحكامها؟ ثم كيف عاملها هؤلاء الحكام، بالجفاء والخشونة أم باللين والرفق؟ وما موقف الرعية من هؤلاء جميعا؟                              
لقد كان وجود النصارى بالدولة الأندلسية في تزايد مستمر فهم أهل البلاد أولا ثمّ ألزموا بعد الفتح بالتعايش مع المسلمين والخضوع لأوامر الدولة الجديدة المترامية الأطراف في الغرب الإسلامي. ثم إن الدولة استوعبت جموعهم من مرافق متعددة أهمها:
أ- جلبهم كمرتزقة في الجيوش الإسلامية منذ خلافة بني أمية في قرطبة ثم "سار ملوك الطوائف على نهجهم  وخاصة بنو هود" ( ) حيث أخذت جماعات من المسيحيين تلتف حول بلاط ملوك الطوائف طلبا للمكانة المتميزة ولاعتبارات تجارية واقتصادية. وينطبق هذا بالخصوص على ملوك طليطلة، وبطليوس، وإشبيلية، وسرقسطة، ودانية، وبلنسية، وطرطوشة، كما عمل ملوك الطوائف بدورهم على "جلب أعداد من مسيحيي الممالك الشمالية المسيحية الذين قدموا بغرض العمل بالممالك الإسلامية" ( ) ثم اقتفى المرابطون أثرهم، فاشترى يوسف بن تاشفين "عددا من الروم بلغ عددهم نحو مائتين وأربعين" ( ) فجعلهم نواة لجيشه النظامي، ولم يكن "حرسه خاليا من هؤلاء فقد ضم مئات من الصقالبة النصارى بوصفهم يخوضون القتال ويعرفون كيف يقاومون إخوانهم الإسبان" ( ) وقد سار على نهجه علي بن يوسف الذي استكثر منهم وتبعه ابنه تاشفين "الذي صحب معه من الممالك النصرانية زهاء أربعة ألاف مسيحي" ( ).
ومنذئذ تكاثر عددهم في الجيش المرابطي، "واعتمدوا عليه باعتباره جهاز عسكري قوي قادر على إنجاز المشروعات التوسعية" ( ) .
ب- كأسرى، فقد ساهمت الحروب في إثراء الدولة بالعناصر المسيحية لاسيما في العصر المرابطي من خلال أسراها، فقد أفادتنا المصادر أن الزلاقة وفّرت عددا كبيرا من" الأسرى المسيحييـن الذين بلغ عددهم نحو عشرين ألفـا" ( )، ناهيك عن المعارك الأخرى التي تلتها حيث كان عددهم في تزايد مستمر وأصبح بيعهم في الأسواق بأثمان زهيدة دليلا كافيا على رواجهم في الدولة الأندلسية لاسيما بعد غزوة شنترين كما ذكر المراكشي.
ويدخل في جملة هؤلاء النساء السبايا والجواري اللواتي "مثّلن عنصرا مهما في حياة الأمراء والملوك، فكان منهن إماء خدمة  ومتعة" ( ) ولم يكن ليستغنى عنهن في مجالس اللهـو والشراب والمجـون فكثر عددهن كحظيات أو أمهات أولاد حيث يذكر صاحب الحلل الموشية "أن أم علي بن يوسف كانت رومية" ( ) وازداد عددهن وانتشر امتلاكهن حتى أصبح التهادي بهن أمرا مألوفا لاسيما في عصر الطوائف.                                                                          
إن روح التسامح التي دخل بها الفاتحون الأولون الأندلس ورغبتهم في نشر التعاليم الإسلامية ببسط روح المحبة والأخوة والتعايش بين أفراد المجتمع جعلتهم يعزمون على فتح حوار حضاري بين مختلف الأديان وخلق جو من التآلف والانسجام، "فبادروا بعقد معاهدات سلمية تحفظ لهؤلاء حرية المعتقد  وحماية الممتلكات" ( ) . وما قبول المسيحيين لتلك العقود إلا إقرارا منهم على قوة الإسلام وسلطته فمكّنهم ذلك "من ممارسة شعائرهم الدينية، وإدارة شؤونهم الخاصة حسب قوانينهم والاحتفاظ بسلطتهم وهويتهم الثقافية" ( ) .                                                        
وهكذا أصبح من المألوف اختلاط هؤلاء في الأزقّة والأسواق في المنتديات والمجالس، في القصور والمنيات، فكان التعايش وبرزت معالمه في اندماجهم في المجتمع الإسلامي ويبدو ذلك جليا في إقامتهم بالحواضر الأندلسية الرئيسية التي أشرنا إليها سابقا.
وهذا الاندماج جعلهم في تواصل دائم مع الآخرين رغم "ما تثبته المصادر من دأبهم على سكن أحياء خاصة بهم" ( ).
وهذا ليس من باب التحقير من شأنهم، بل لضرورة تفرضها عاداتهم وتقاليدهم، فقد توفرت لهم في هذه الأحياء كل متطلباتهم إذ بها الحانات، والأسواق تباع فيها الخمر ولحم الخنزير.
والملاحظ أن تميزهم في أحياء لم يمنعهم من مخالطة السكان ولنا أن "نتخيل المشهد في كل مدينة من مدن الأندلس عبر دروبها المركزية الضيقة إذ نرى فيها احتشاد الجموع من كل جنس ولون ولسان وهي تروح وتغدو إلى السوق والحمامات أو إلى المسجد والكنيسة" ( ).
أما على صعيد الحياة اليومية فإنهم "لم يمنعوا من تناول الخمور وأكل لحم الخنزير ولم تفرض عليهم قيود معينة في لباسهم" ( ) بينما يؤكد حسين مؤنس في كتابه عالم الإسلام أنهم "تميزوا في فترة معينة بالزنار الذي لم يكن فيه من التشدد ما يلزمهم به، وحتى في الأوقات التي ألزموا بها بذلك فإن جمهور المسلمين لم يروا غرابة في أن يكون الإنسان مسيحيا" ( ).
وقد تغنى بالزنار شعراء الفترة من أمثال ابن الحداد الذي يؤكد أنه ما زاد محبوبته إلا جمالا ورشاقة يقول:
      وَبَيْنَ المسيحيات لي سامريَّـةٌ     بعيدٌ عَلَى الصَبِّ الحَنِيفّي أَنْ تَدْنُو
      مُثَلّثَةٌ قَدْ وَحَدَّ  اللهُ  حُسْنَهـا      فَثُنِيَ في قَلْبِبي بِهَا الوَجدُ والحُزْنُ
     وَطَيَّ الخِمَارِ الجُونِ حُسْنٌ كَأَنَّها    تَجَمَعَ فيه البَدُر واللَيْلُ  والدَّجْنُ
     وَفي مَعْقَدِ الزُّنَارِ عَقدُ صَبَابَـتي     فَمِن تحته دَعْصٌ وَمِنْ فَوْقِه غُصْنُ
     وَفِي ذَلِكَ الوَادِي رَشًا أَضْلُعِي لَهُ   كُناسٌ قَمَريٌ فُؤَادي لَهُ وَكْنُ ( )
كما أنهم لم يمنعوا من التزين بأزياء المسلمين بل أحيانا لم يعد يفرق بينهم، حينها تعالت أصوات الفقهاء بضرورة تمييزيهم عن المسلمين "كالشكلة في حق الرجال والجلجل في حق النساء" ( ) وكان التأثير متبادلا، فالمسلمون بدورهم قلدوا النصارى "وظهرت ملامح التأثير الإفرنجي في الزي الأندلسي بوضوح" ( ) لاسيما في "الملابس الحريرية المطرزة والقلانس" ( ) وهذا التقليد تجاوز الرعية إلى الملوك والأمراء فقد أكد لنا المقري "أن أمراء الأندلس وأعيانها غالبا ما تزينوا باللبـاس الإفرنجي" ( ) وذكر بالخصوص ابن مردنيش الذي "مال إلى اتخاذ زي الروم" ( ).
وما انتشار مصطلح (فشطان) في عامية الأندلس والذي كان يعني "في العصر المرابطي ثياب الروم" ( ) لدليل واضح على التمازج الحضاري بين المسلمين والمستعربين. ومن مظاهر تأثر المسلمين هو اقتباسهم من أهل البلاد بعض أسمائهم كالذي "عرف به أبو جعفر بن عبد الله الذي كان يدعى بابن شانجة" ( )، كما "أضافوا إلى بعض أسمائهم المقطع الإسباني الواو والنون" ( ) للدلالة على التكبير مثل عبدون، خلدون، حفصون…
أما في ميدان المعاملات التجارية "فلم تكن هناك موانع حيث تعاملوا مع المسلمين بيعا وشراء" ( ).
وتعد الأمثال الشعبية أرقى درجات المصداقية في التعبير عما كان "يسود من معاملات تجارية بين المسلمين والنصارى واليهود داخل المجتمع الأندلسي" ( ) منها من "فتح حانوت للتجارة يبيع من يهود ونصارى"( ).
أضف إلى ذلك أنهم كانوا "ملاكا صغارا بعد أن منحتهم القوانين الإسلامية الحق في تملك الأرض والتصرف بها كما شاءوا" ( ) بل تعدوا ذلك بأن سمحت لهم الدولة الإسلامية بالأندلس أن "يتمتعوا بقدر من الاستقلال في مناطق الثغور" ( )، كما تمتعوا بالمساواة إلى جانب المسلمين حيث نصروا في مظالمهم ونصفوا في شكواهم ولنا في علي بن يوسف مثل واضح على احترام المرابطين لحقوق النصارى الاجتماعية إذ يذكر ابن عذاري "أن مجموعة من مسيحيي غرناطة ذهبت إلى بلاط علي بن يوسف لتقديم شكوى حول العسف والجور الذي تعرضت له من قبل عامل المدينة عمر بن يناله. فلما ثبت للأمير حجتهم أمر بسجنه وأنصفهم من ظلاماتهم" ( ).
وصور الاحترام تمثلت أيضا في تخصيص "مقابر للذميين تماشيا مع عاداتهم وتقاليدهم في دفن موتاهم" ( ). كما ارتبط المسلمون بعلاقات متعددة مع النصارى، تتسم بالمودة فدخلوا معهم في صداقات ومصاهرات وخالطوهم وشاركوهم أعيادهم ومناسباتهم الاجتماعية وكانوا "يقصدون كنائسهم ودياراتهم" ( ) .
وحاول ملوك الطوائف كسب مودة النصارى وصانعوهم "واعتمدوا عليهم في كثير من الأعمال خصوصا في بلاطهم فصارت لهم مكانة" ( ). ومن أبرز الصداقات التي ذكرتها المصادر المتعلقة بمنذر بن يحي التجيبي الذي كان "كثير التودد إلى ملوك النصارى وقد ربطته بهم علاقات ود وصداقة وثيقة" ( ) وصلت به إلى "عقد مصاهرة بين شانجه ملك نبرة، ورامون بويل ملك برشلونة في حفل بهيج حضره الفقهاء والقساوسة وأعيان الملتين" ( ).
وبهده المناسبة نظم ابن دراج قصيدته المشهورة مباركا سياسة ممدوحه وتهنئته على إحلال السلام والوئام جاء فيها:
فَهُناك أخْلَصَتِ النُّفوسُ وأكَّدتْ       عَقْدُ العُهُودِ وشَدَّتِ الأنصـارُ
وَتَوَاصَلَ البُعْدَاءُ منكَ بطاعـةٍ        وُصِلَتْ بِهَا الأرحام  والأصهارُ
فَعَقَدْتَ في عُنْقِ الضَّلاَلِ مَوَاثِقًا        دَانَتْ بها الرُّهْـبَانُ والأحْبـَارُ
وَكَأَنَّمَا كَانَتْ عُقُـودَ تمَََائِـمٍ         سَكَنَتْ بِهَا الأَوْجَالُ والأَذْعَارُ
      أَحْيَيْتَ مِنْهَا مُلْكَ رُذْمِيرٍ وَقَدْ       مَشَتِ الدُّهُورُ عليه والأَعْصَارُ ( )
ومثال آخر لعلاقات ملوك الطوائف بالنصارى هو "مجاهد العامري الذي قضى سنين طوالا في علاقات ودّ مع كونت برشلونة ومع فردلند ملك قشتالة" ( ).
بينما تميز حكم ابنه إقبال الدولة بالعلاقات الحسنة مع ملوك النصارى والتسامح المطلق معهم، حتى وصل به الأمر إلى أن وضع "كنائس مملكته في دانيا والجزائر تحت رعاية أسقفية برشلونة" ( ). في حين "تولى المعتضد بن عباد رعاية ششند الذي نال ثقته وإعجابه فولاه المكانة الرفيعـة" ( ).
ومن الملوك من كانت له يد في إحلال السلام بين الخصوم كالأمير محمد بن سعد بن مردنيش الذي عقد مع الممالك النصرانية "المعاهدات وصالح ملك قشتالة "ألفونسو السابع" على "ريمون برنجير الرابع" صاحب برشلونة على أن يدفع لهما في السنة خمسين ألف دينار حشمية" ( ). وعدّ علي بن يوسف بن تاشفين "صديق المسيحيين" ( ).
ومن مظاهر هذا التمازج بين الملتين ما نوهت به كثيرا كتب الأدب لتعطي لنا صورا حية تجسدت في التآلف بين الجنسين حيث نشأت علاقات حب بين المسلمين والنصرانيات، ولنا في ذلك قصص أروعها ما جادت به قريحة الشاعر ابن الحداد  من شعراء القرن الخامس هجري، وهو يتغزل بنويرة النصرانية:
    عَسَاكِ بَحَقِ عِيسَاكِ           مُريحَةَ قَلْبي الشَّاكِي
        فَإنَّ الحُسنَ قَدْ ولَّا             كِ إحْيَائِي وإهْلاَكِي
        وَأَوْلَعَنِي بصُلْبَـانٍ            وَرُهْبَانٍ ونُسَّـاكِ ( )
وعندما يحدثنا الشعراء عن هذه العلاقات لا يكتفون بتصوير الجانب اللاهي من الحياة الأندلسية، وإنما يقدّمون لنا معلومات قيّمة عن "حياة هؤلاء المستعربين وعن لباسهم وأزيائهم وعن الحرية التي كانوا يتمتعون بها في قيامهم بشعائرهم الدينية" ( ) فقد أورد لنا ابن خاقان في المطمح صورة نقلها ابن شهيد عن تلك الأجواء: "أن أبا عامر بن شهيد قد بات ليلة بإحدى كنائس قرطبة وقد فرشت بأضغاث آس وعرشت بسرور واستئناس، وقرع النواقيس يبهج سمعه وبرق الحميا يسرج والقس قد برز في عبدة المسيح متوشحا بالزنانير أبدع توشيح، قد هجروا الأفراح واطرحوا النعم كل اطّراح
لاَ يَعْمَدُونَ إلى مَاءٍ بآَنِيةٍ           إلاَّ اغْتِرَافًا من الغُدْرَانِ بالرَّاحِ
وأقام بينهم يرشف حميا كأنما يرشف من شفة لميا وهي تنقح له بأطيب عرف كلما رشف أعذب رشف ثم ارتحل بعدما ارتجل فقال:
       ولَرُبَّ حَانٍ قَدْ شَمَمْتُ بِدَيْرِهِ    خَمْرَ الصَّبَا مُزِجَتْ بِصِرفِ عَصِيرِه                      
      فِي فِتْيَةٍ جَعَلُوا السُرورَ شِعَارَهُم      مُتَصَاغِـرين تخشُّـعًا لكَبِيـرِه
      والقسُّ مِمَا شَاءَ طُولَ مَقَامَـنَا       يَدْعُو سعودًا حَوْلَـنَا بِزَبـُورِه
      يُهْدِي لَنَا بالرَّاحِ كُلَ مُصَـفِّرٍ       كَالْخَشْفِ خَفَّرَهُ التِمَّاحُ خَفِيرِه
      يتناولُ الظُّرفاءُ فيه وشُربُـهُم        لِسُلافهِ والأكلُ منْ خنْزيرِه ( )
وقد بلغ التسامح إلى حدّ صار فيه المسلمون "يزورون كنائس النصارى ويزور النصارى قبور أولياء المسلمين لنيل البركة" ( ). يقول ابن خفاجة متشوقا إلى جو الكنيسة:
      فَيَا لَشَجَا صَدْرٍ مِن الصَّبْرِ فَاِرغٍ    وَيَالَقَذَى طَرْفٍ مِنَ الدَمْعَ مَلآنِ
     ونَفْـسٍ إلى جَوّ الْكَنيسَةِ صَبَّةِ     وَقَلْبٍ إلى أُفْقِ الجَزِيرَة حَنـَّانِ
    تَعَوَّضْتُ مِنْ وَاهًا بِآهٍ وَمِنْ هَوًى   بِهَونٍ ومِنْ إخْوَانِ صِدْقٍ بِخَوَّانِ ( )
وكان لهذا التمازج أثره البالغ في انصهار العادات والتقاليد بعضها ببعض فظهرت "مشاركة الأندلسيين للمسيحيين في أعيادهم واحتفالاتهم الدينية التي أفرزتها قرون عديدة من التعايش" ( )، حتى أضحت مألوفة في المجتمع الأندلسي "تتعطل فيها الأعمال، ويترقبها الجميع من مسلمين ونصارى، ويحرصون على الاحتفال بها" ( ) بل إن بعض الأمراء كانوا "يتزوجون في هذه المناسبات الدينية المسيحية" ( ) وأبرز هذه الأعياد هي "عيد العصرنة أو المهرجان الذي كان يحتفل به بعد مرور خمسين يوما على عيد الفصح" ( )، وهي مناسبة تمثل لدى المسيحيين ذكرى" الروح القدس على حواري المسيح الاثني عشر" ( )، وفيه قال ابن مالك بن أبي عبدة:
رَأَى المِهْرَجَان قَدْ اسْتَبْشَرَا            غَدَاةَ بَكَى المُزْنُ واسْتَعْبَرا
وَسُرْبِلَتْ الأَرْضُ أَفْوَافَـهَا           وجُلِّلَتِ السُندس الأخْضَرَا
وهَزَّ الـرياح صنَابِيـرَها            فَضَوَّعَتْ المسْكَ والعَنْـبَرا
تَهَادى به النَّاسُ أَلْطَافَهم              وسَامَ المُقِـلُّ بِه المُكْثِـرَا ( )
وامتزج الشعر بالأمثال الشعبية التي صوّرت هذه الاحتفالات كقولهم: ًالكبش المصوف ما يكفر العنصرة ً( ).
 ويأتي شاعر الزجل ابن قزمان ليعطي لنا أوضح صور التعايش من خلال أشعاره "ملفتا الأنظار إلى مباهج الاحتفال وأشكاله" ( ).
ومن أعيادهم كذلك عيد "يناير" الذي يحتفل به في النصف الأول من هذا الشهر.يقول ابن قزمان عنه :
        الحَلُّـوْن يُعْجَـنْ            والغَزْلاَنْ تُبـَاع
        يَفـرح للْيَنَيَـرْ              مَنْ مَاعْ قِطَـاعْ
        وفِـيـهْ بـِاللهْ              لَلْعَيِنْ انْشِـرَاحْ( )
و"ليلة العجوز وهي ليلة آخر السنة الميلادية وعيد خمسة أبريل وهو مناسبة دينية تعرف عند المسيحيين بالجمعة العظيمة التي ترمز إلى تاريخ صلب المسيح" ( ).
وتجدر بنا الإشارة إلى كون المشاركة في هذه الاحتفالات لم تكن لتعجب بعض الفقهاء حيث وجدت رفضا صارما ظهرت معالمه في رسائل الحسبة لاسيما لابن عبدون الذي أنكر بشدة مصاحبة المسلمات لصديقاتهن النصرانيات إلى الكنيسة: " تمنع النساء المسلمات من دخول الكنائس المشنوعة فإن القسيسين فسقة زناة لوطة." ( ) ويؤكد هذه الظاهرة ابن حداد في شعره:
 وكُلُّ قَسّ مُظْهَر للتقى        بَآي إنْصَاتٍ  وإخْبـَـاتِ
 وعَينُه تسرحُ في عَينْهِم      كالذّئْبِ يَبْغِي فَرْسَ نَعْجَاتٍ ( )
لكنها كانت صرخة في واد، ونفخة في رماد، فقد ضرب هؤلاء بهذه الآراء عرض الحائط، واستمرت علاقات الودّ، والحبّ، والتزاوج بين الجنسين من الملّتين.
وثمة ظاهرة أخرى تدل على اختفاء ملامح الصراع العنصري أو الديني من المجتمع الأندلسي، فقد تمكنت الروح الإسلامية الحقيقية أن "توحد بين الناس دون النظر إلى أعراقهم أو معتقداتهم" ( ) ألا وهي ظاهرة الزواج والمصاهرة، التي عرفت من الفتح الإسلامي إذ كانوا "معظمهم جنودا لم تصحبهم زوجات ولا بنات فغدا الزواج بينهم أمرا مألوفا" ( ). ولعل أهم المصاهرات التي تمت بين المسلمين ونصارى الشمال "هي تلك التي ربطت الأسرة الأموية الحاكمة في قرطبة بالأسرة النافارية" ( )، ثم أولع حكام الطوائف بالإسبانيات فاتخذوا منهن الزوجات والحظيات، فزوجة مجاهد العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية نصرانية وتدعى"جود"( ) أنجبت له "خمس بنات تزوجهن ملوك الطوائف" ( ).
فشاعت المصاهرات بين أمراء الثغور "مثل بني قيس وبني الطويل المولدين وحكام سرقسطة، وبين ملوك إسبانيا النصرانية في مملكة نبرة وقشتالة" ( ).
كما أفاضت المصادر بذكر أخبار زواج الأمراء المرابطين بالمسيحيات فقد أورد صاحب الحلل أن يوسف بن تاشفين تزوج بجارية رومية تدعى "فاض الحسن"( ) ونهج أثره علي ابنه فتزوج من "قمر" جارية رومية( ) وشاعت أيضا ظاهرة التسري بالجواري الروميات حتى أنه كان في قصر إشبيلية رواق يدعى رواق الصبايا كان يستقبل فيه الفتيات اللائي كان على نصارى الشمال أن يقدموا مئة منهن كل عام إلى بعض ملوك العرب.
أما على الصعيد الإداري فقد حافظ النصارى على نظامهم القديم في تسيير شؤونهم الداخلية والقائم على "نظام القمّاسة فقد سمح لهم المسلمون أن ينظموا أنفسهم وفق ما تقتضيه شرائعهم" ( )، فلهم حق اختيار رئيس منهم يتولى إدارة شؤونهم وهو يدعى بالقومس gomes ( ) أي "زعيم نصارى الذمة أو زعيم عجمة الذمة" ( ) وكان أول من شغل هذا المنصب بعد الفتح "أرطباس ardabast أثناء ملك القوط غيطشة" ( ).
ويتولى القومس منصبه بالانتخاب تمثلا لجانب من جوانب العدالة وتنتخب إلى جانبه جماعة من القومسات الممثلة لنواح مختلفة إذ كل ناحية يديرها قومس صغير كان يسمى "censor" ( ) يقول ابن الخطيب: "وكان يرأسهم أشياخ من أهل دينهم أولو حنكة ودهاء ومداراة ومعرفة بالجباية اللازمة لرؤوسهم" ( )
وقومس الحقبة المرابطية الذي ورد ذكره هو "القلاس" ( ). إلى جانب هؤلاء نجد وظائف أخرى تولاها النصارى في تنظيمهم الخاص، مثل "قاضي العجمة، وصاحب المدينة أو حارسها، ومستخرج خراج أهل الذمة والأمين الذي كان على رأس كل نقابة من نقابات العمال المختلفة، والعريف الذي تميز بمهارته في حقل من حقول الصناعة" ( ).
وفي ظلّ هذا التسامح تمتّع النصارى بكل حقوقهم، ومارسوا شعائرهم بكل حرّية، فقد أبقى المسلمون على المؤسسات النصرانية ولم يمسوها بأذى بل ساهموا في حالات أخرى في تشييد كنائس لهم، "ولم نسمع عن كنيسة هدمت أو حوّلت إلى مسجد إلاّ في حالات نادرة" ( ).
وفي هذه الأجواء ارتقى جماعة من النصارى المعاهدين إلى مراكز الدولة، فشغلوا مناصب في الوزارة والسفارة، وحتى في الجباية وكان منهم الشعراء والأطباء والمهندسون والتجار ...
"فالمعتضد قرّب إليه ششند" ( ) وضمّه إلى مجلسه ثم "رفع مكانته ونظمه بين وزرائه وحاشيته واستخدمه في مهام مسيحية خاصة عند فرناندو ملك قشتالة" ( ).
كما حظي ابن المذغري الإشبيلي وابن مرتين وهما من شعراء النصارى بمكانة مرموقة في بلاط إشبيلية وعيّن أبو الربيع النصراني كاتبا لدى باديس بن حبوس  في غرناطة.
وشخصية متميّزة أخرى تمثّلت في "السيّد الكومبيطور الذي علا شأنه في بلاط سرقسطة حيث توطّدت مكانته واشتدّ نفوذه عند المؤتمن بن هود فكان لا يبرم أمرا من أعمال الحرب أو السياسة دون مشاورته" ( ).
كما ظهر منهم قادة محنكون من أمثال "الروبرتيـر في العهد المـرابطي" ( )، إضافة إلى استعمالهم في جباية الضرائب في "عهد علي بن يوسف" ( ). ولنذهب إلى أكثر من هذا فقد حارب بعض النصارى مع المسلمين كمرتزقة ووصلوا بذلك إلى مكانة اجتماعية مرموقة فأصبح منهم ذوو الجاه والسلطان والنفوذ إلى جانب ذلك "كانوا يكوّنون الحرس الخاص لأمير المسلمين علي بن يوسف" ( ).
من خلال هذا العرض الموجز تبينت لنا مظاهر التسامح الديني تجاه النصارى. فإلى جانب ما تمتّعوا به من حرّية واستقلالية في نظمهم وعقائدهم إلاّ أنّه هناك ثمّة حقيقة تجدر الإشارة إليها إذ أنّ الحقبة مدار الدراسة ظهر فيها تباين في معاملة أهل الذمة فبقدر ما نجد التسامح تعلمنا مصادر أخرى عن وجود نوع من القسوة في التعامل مع هؤلاء لاسيما في العصر المرابطي. ونحن هنا لسنا بصدد دحض الشبهات التي وصم بها أمراء هذا العصر فقد رأينا جوانب مهمة من تسامحهم، وإنما نوعز شدّتهم  إلى مظاهر الانحلال والتفسّخ الأخلاقي الذي نتج عن تلك المخالطة اللاّمحدودة. هذا من جهة ومن جهة أخرى لضرورة أمنية سياسية إذ تيقن الملوك بغدر النصارى وخطورتهم على نظام الدولة، فقد كان أهل الذمة ينتهزون الفرص للإيقاع بالمسلمين، ففي حصار قلمرية سنة 456 هـ "ساعد النصارى المعاهدون الجيش القشتالي المحاصر وعاونوه بمؤنهم المختزنة وسهّلوا عليه المحاصرة والصمود، كما دأب النصارى المعاهدون في طليطلة أيّام القادر بن ذي النون على تدبير الدسائس وبث الفتن والاضطرابات داخل المدينة والاتّصال بألفونسو السادس وأعوانه" ( ) دون أن ننسى ما أقدم عليه النصارى المعاهدون من دعوة ألفونسو ومساندته لأجل القضاء على الحكم الإسلامي بالأندلس. فحرصا منهم على القيم والأخلاق الإسلامية وحفاظا على كيان الدولة السياسي اضطر الأمير المرابطي أن يتّخذ في حقهم إجراءات تارة بالنفي وأخرى بالقتل أو التغريب، إلاّ أن هذه الإجراءات لم تمنعهم من ممارسة شعائرهم في المنفى بل وصلوا إلى حدّ بناء كنائس خاصة بهم بعد أن أفتى الفقهاء بذلك .
لقد واجه المرابطون خطر المؤامرات المسيحية بإجراءات عنيفة كان منها "طرد أعداد كثيرة من المسيحيين، وربما كان هذا إجراء عسكريا اقتضته حاجات الأمن  وسلامة الجيوش الغربية في البلاد البعيدة" ( ).
وعندما علم الأمير تاشفين بن علي "باستخدام أهل الذمة في بعض الأعمال الخاصة بالجباية شدّد على القضاة في مراسلة رسمية بعدم استخدامهم في أي عمل يمسّ مصلحة من مصالح المسلمين" ( )، وقد خيّرهم المرابطون بين "اعتناق الإسلام وبين دفع الجزية، فارتضوا بالخيار الثاني الذي أسهم في تدعيم موارد بيت المال التي كان معظمها يخصص للجهاد" ( ) وعلت أصوات التحذير من التعامل معهم في مجال الكتب التي كانوا يحرفونها وينسبونها إلى ذويهم. ومنهم من "تعرّض للاسترقاق والعبودية وعانى أشكـالا من الابتزاز والضغوط التي أدت بهم إلى الهروب" ( ). ومع كل ذلك تبقى صور التسامح مع النصارى خالدة يشهد بها كلّ منصف في حق هؤلاء الأمراء والملوك.
ثانيا: اليهود:
من المسلم به أنّ اليهود قد وُجدوا في المجتمع الأندلسي جنبا إلى جنب مع النصارى، وتمتعوا بحقوقهم كاملة في ظل تسامح الإسلام مع أهل الذمة.
لقد أجمعت المصادر على تحديد تاريخ دخولهم الأندلس والذي يرجع إلى سنين قبل الفتح الإسلامي، متوجين أفكارهم بما لحق اليهود من أذى  ومضايقات في العهد القوطي، وما تعرضوا له من استبداد وظلم، ونهب للأموال ولما قاسوه من عنت وتشريد في ظل نفسية ناقمة تتأجج غضبا وحقدا على المسيحيين الذين" اتخذوا في حقهم إجراءات قاسية حيث ألزموهم إما باعتناق المسيحية أو الهجرة" ( )، أضف إلى ذلك أنهم أخضعوا لمرات عديدة "لتشريعات قمعية وأكرهوا على التحول عن دينهم" ( ). فتشتت شملهم، وتفرّقت أشياعهم وكلّهم أمل في إيجاد مخرج يحرّرهم من الرقّ والعبودية التي حبست أنفاسهم، ولماّ لاح لهم خبر الفتح وعبور طارق بن زياد بالجيش الإسلامي سارعوا إلى مساندة الفاتحين الجدد، ومدوا لهم يد العون "فدلوهم على عورات البلاد وثلمات الأسوار" ( ). آملين في الخلاص وردّ الاعتبار للفئة اليهودية. من هنا وضعوا تحت تصرفهم كل الإمكانيات والقدرات السياسية والعسكرية، فكان الفتح، وكانت معه الثقة والمكافأة "فاتخذوهم حرسا لما كانوا يفتحونه من بلاد وحصون، وأباحوا لهم المحافظة على حريتهم الدينية وعلى عاداتهم وتقاليدهم" ( ). فنعموا بتسامح قلّ نظيره. ونعموا بحياة مترفة في ظل الدولة الجديدة. فبدأ عددهم يتزايد، وتوالت الهجرات نحو الأندلس حتى أضحت الجالية اليهودية تمثل قوة اجتماعية داخل الدولة لابد وأن يحسب لها ألف حساب.
ومع حلول عهد الطوائف حافظوا على مكانتهم هذه، بل ازدادوا تموقعا وتمركزا في الدولة، واستقروا في "كبريات المدن كطليطلة، وقرطبة، وغرناطة التي دعيت بغرناطة اليهود، لكثرة اليهود النازلين بها" ( )، وطركونة( )، و"إلياسنة التي ضمت أعدادا هائلة منهم" ( )، وجاوروا المسلمين في مساكنهم فلم يتعرضوا إلى ظلم أو أذى، بل تعدوا مجاورة المسلمين إلى "الإقامة بأحياء خاصة سميت بأسمائهم" ( ). فيذكر أن قرطبة كان بها "حي يعرف بربض اليهود" ( ). والملاحظ أنّ إقامتهم في أحياء خاصة لم تمنع من وجود دور للمسلمين بها، وإن كانت قليلة، وهذه الحقيقة نستدل عن وجودها من خلال نوازل الفترة، كالقضية التي أوردها الونشريسي عن "ضرر يهودي اشترى دارا من مسلم في درب يسكنه أهل خير فسكنها وتأذى الجيران بما لا يجوز فعله كشرب الخمر" ( ).
وبعض دورهم كانت ملاصقة للمساجد. فقد أورد الونشريسي قضية أخرى "رغب فيها اليهود أن يخرج لهم ناظر أحد المساجد الماء من المسجد لدورهم والمسجد ملاصق لدرب اليهود" ( ). ثم أنّ علي بن يوسف لماّ عزم على "توسيـع جامع القروييـن اشترى أرضا تجاوره كانت في ملكية بعضهم" ( ).
ويؤكّد د/مسعود كواتي أن التزام اليهود بسكنى أحياء خاصة فإنما "يعود إلى اليهود أنفسهم لأنهم يحبون التجمع في أحياء تسمح لهم بممارسة شعائرهم بعيدين عن أعين المسلمين، ولأنهم يفضلون الانزواء انطلاقا من أفكارهم الدينية التي تقول بأن اليهودي أفضل من غيره، وبالتالي عليه أن يتجنب غيره في المعاملة إلا إذا كانت المصلحة تقتضي" ( ).
كما أكدت المصادر من جهتها عن تمتع اليهود بعلاقات طيبة مع المسلمين، فقد اندمجوا معهم في شتى مجالات الحياة فخالطوهم وابتاعوا منهم وجالسوهم،  وشاركوهم حلو حياتهم ومرها. فكان لهذا الامتزاج أثره في الحياة العامة فاتّخذ اليهود اللباس العربي، ويثبت الواقع التاريخي أن "هؤلاء قلدوا أزياء الأعيان من المسلمين متجاوزين بذلك كل المحاذير الفقهية" ( ). فقد أورد الونشريسي نازلة عن رجل يهودي "كان يرتدي عمامة وخاتما ويركب السروج على فاره الدواب على عادة المسلمين في الأندلس ويجلس في حانوته دون غيار ولا زناّر يتميّز به عن عموم المسلمين" ( ).
كما أنهم تحدّثوا اللغة العربية، واندمجوا اندماجا عميقا في الحضارة الإسلامية "متمادين في استخدام الأسماء العربية حتى بعد زوال السيادة العربية بزمن طويل" ( ). إذ نجد "يهودا بن ليفي الطليطلي الذي كان يكنّى بأبي الحسن، وأبراهام بن داود كان يسمى بأبي إسحاق إبراهيم بن المـجيد" ( ).
ونظرا للتسامح الكبير الذي حظي به اليهود دفع البعض منهم إلى اعتناق الإسلام، وقد أطلق على اليهودي الذي أسلم تعبير "سلامي" ومن يسلم عن كره لفظ "إسلامي" ( ) ولنا مثال على ذلك أبو الفضل حسداي ابن يوسف الذي اعتنق الإسلام وهو أحد وزراء المقتدر بن هود في بلاط سرقسطة. فقد كان من "أشراف اليهود بالأندلس ويعود أصله إلى ولد موسى عليه السلام" ( ).
ثم إن الدولة الإسلامية في عصر الطوائف والمرابطين ، تركت لليهود حرية المعتقد، ولم "يصدر تشريعات خاصة باليهود" ( ) بل أوكلوا لهم حرّية التنظيم والتنظير لتشريعاتهم وأحكامهم مراعين في ذلك خصوصياتهم.
فقد تهيكل اليهود في "جماعة يرأسها شيخ اليهود الذي يدعى الجاون/ Gaon " ( ) وهي تسمية تميزت بها العهود الأولى للإسلام في الأندلس وكان يمثلها حسداي بن شبروط الذي عينه عبد الرحمان الثالث. وبعده ظهر "ابن النغريلة ثم ابنه يوسف" ( ) من بعده إلى جانب ابن ميمون( ). ويلي رئيس اليهود مجموعة من الموظفين الذين تولوا الإشراف على جمع التبرّعات ورعاية المعابد اليهودية. ومن الجماعة اليهودية الروحيين "الحزان" ( ) وهو الذي يتولى الإشراف على الصلاة، مشترطين فيه المعرفة الوافية بالتلمود وأحكامه. كما توكل إليه وظيفة التعليم.
ويشير بوتشيش أن هذا التنظيم في المرحلة الثانية من العصر المرابطي اتخذ شكلا منظما دقيقا،حيث أصبح يرأس جماعة من اليهود نفر من الطاهرين، يدعى الواحد منهم "البرور" وكان لهذا النفر مجلس يدعى "البروريم" ومدة ولايته لا تتجاوز السنة، تمثلت مهامه "في مسؤوليته الكاملة أمام الإدارة المرابطية في كل ما يتعلق بالضرائب والالتزامات الأخرى" ( ). حتى وردت بعض الأمثال الشعبية ناقمة عن تأديتها للضرائب التي يستلمها منهم اليهود( ).
أما فيما يتعلق بالمنازعات والقضايا الجبائية فإن حلها بالضرورة يرجع إلى "مؤسسات اليهود القضائية لتحل حسب الشريعة اليهودية" ( ) عدا بعض النزاعات التي تستوجب الرجوع إلى المحكمة الإسلامية.
 أما في الحياة العامة فإن حظ اليهود كان أوفر من النصارى فقد شغلوا مناصب متعدّدة في عهد الطوائف خصوصا "الإدارة، المالية، والوزارة، والحجابة، والكتابة" ( ). بينما منعوا منها في العهد المرابطي واشتغل نفر منهم في "الطب والهندسة والتعليم كما برعوا في صناعة الحرير والزجاج والمواد الصيدلانية" ( ) وامتهن عدد منهم صناعة الورق على أن أوسع مجال عملوا فيه هو التجارة، وأهم تجارة اشتهروا بها هي "تجـارة الرقيق وبخاصة الصقالبة" ( ) وغيرها كثير مما "أكسبهم المكانة الراقية في المجتمع حيث تم إشراكهم في جيش البلاد" ( ) إلى جانب ذلك كانوا "يكوّنون الحرس الخاص لأمير المسلمين علي بن يوسف" ( ). وقد أقر ذلك "ريموند" بقوله: "لم ينشأ في أي من المجتمعات اليهودية الأخرى مثل هذا العدد الكبير من اليهود، ممن أحرزوا مناصب مرموقة بل مراكز نفوذ في العالم غير اليهودي"( ).
ولعل أهم شخصية يجدر الوقوف عندها هي إسماعيل بن النغريلة الذي ذكره المؤرخون بأنه "أكمل الرجال علما وحلما وفهما وذكاء ودماثة وركانة ودهاء ومكرا وجبنا ومداراة للعدو، كما كان من أهل الأدب والشعر وأتقن اللغة العربية كتابة وشعرا، حتى أصبح يكتب بها لنفسه ولباديس بن حبوس فضلا عن إتقانه لفصول التحميد لله تعالى، والصلاة على رسول الله ، والتزكية لدين الإسلام وفضلا عن ذلك فقد كان ملما بعلوم الهندسة والمنطق وقد أغرم بجمع الكتب" ( ) فالمصادر لا تذكر ابن النغريلة إلاّ مقرونا "بالوزارة التي تقلّدها في بلاط بني زيري والتي أهّلته لنيل حظوة عالية كادت تبلغ به حد السيادة وهو فريد لم يعرفه تاريخ الأندلس من قبل ولم يعرفه كل تاريخ العصور الوسطى على التأكيد" ( ). حتى أضحى شخصية مركزية في المجتمع اليهودي مستحقا لقب "ناغد" أي أمير( )، وذلك لميله الشديد "لبني جنسه وحفاظه بشدّة على هويته كاعتراف منهم بفضله وعلمه ومكانته" ( ).
من قوله:
أَدينُ بدِين السَّبْتِ جَهرًا لَدَيكُمُ     وإن كُنت في قَوْمِي أدينُ بِه سرّا
وَقَدْ كَانَ مُوسَى خَائِفًا مُتَرَقِّبًا      فَقِيرًا وأُمِّنْتُ المخَافَةَ والفَقْرَا ( )
وإذا كان ابن النغريلة كما قيل ألمع حاخامات البلاط، فقد كان هناك آخرون "كأبراهام في البلاط الزيري في غرناطة. وإسحاق بن حسداي في البلاط اليهودي في سرقسطة، وأبي الفضل بن حسداي كذلك في بني هـود، و أبراهام بن مهاجر بين بني عباد في إشبيلية" ( ).
أما في البلاط المرابطي فنجد ألمع الأسماء كالشاعر "أبي يعقوب سليمان ابن المعلم الذي حمل صفة الأمير والوزير، وأبي الحسن أبراهام بن سيربن كامنيال، والوزير سليمان بن فاروبال الذي اغتيل عقب معركة إقليش وهو يؤدي مهاما ديبلوماسية" ( ).
والملاحظ أنّ كثيرا من هذه الشخصيات كان يحمل لقب وزير وغالبا ما كان هؤلاء الوزراء يجمعون بين الوزارة والكتابة. حيث نجد ابن النغريلة بدأ أولا "كاتبا بدولة بني زيري إذ هو من أهل الأدب والشعر" ( ) ثم ارتقى شيئا فشيئا حتى انتهى به الأمر إلى السيادة فضلا عن جباية الأموال  وقيادة الجيوش. ثم كان خليفته من نسله ابنه يوسف الذي سيطر سيطرة تامة على مقاليد الحكم. فقد كـان مشرفا على الكتابة والجباية وتعيين العمال وعزلهم" ( )، ثم ارتقى إلى أن "قلّد باديس بن حبوس في لباسه بحيث أصبح من العسير التفرقة بين الرئيس والمرؤوس" ( ).
وهكذا صارت "لليهود صولة على المسلمين في دولتهم" ( ). ويورد لنا ابن عذاري مثالا عن سطوة هؤلاء "في شخصية أحد كتّاب أبي عمر بن يناله عامل غرناطة الذي كان يهوديا، وأنه أصبح يحشر أنفه في كل الأمور السياسية، حتى نجح في اغتيال أحد مساعدي العامل المذكور" ( )، كما أسند إليهم علي بن يوسف بعض المناصب المهمّة "فكان أطباؤه الخاصّون من اليهود كأبي أيوب سلمان بن المعلم وأبو الحسن بن عبد الرحمان بن ميار اللّذين لقّبا بلقب الوزراء" ( ).
وثمة شخصية يهودية كبيرة مثل "الشاعر موسى بن عزرى الذي أحرز لقب صاحب الشرطة" ( ).
وهكذا فإن الشعر والأدب وسيلة ترفع من صاحبها إلى أسمى مراتب الدولة بغضّ النظر عن دينه؛ فنبغ عدد من الشعراء غير المسلمين وتولى بعضهم الوزارة، وشكّلوا ما يمكن أن "نسمّيه شعر أهل الذمة" ( ). كالذي نجده عند أبي الفضل حسداي وقد بلغت فيه الصنعة أوجّها؛ يقول:
تَوريدُ خَدِّكِ للأَحْدَاقِ لَذَّاتُ        عَلَيْهِ من عَنْبِرَ الأَصْدَاغِ لاَمَاتُ
نِيرَانُ هَجْرِك للعشاق نَارُ لظى      لَكِنَّ وَصْلَكَ إن وَاصَلْتَ جَنَاتُ
كَأنَّمَا الرَّاحُ والرَّاحاتُ تحمِلها   بُدُورُ تَمٍّ وأَيْدِي الشُرْبِ هَالاَت ( )
ومنهم إسحاق بن شمعون القرطبي الذي برع في الموسيقى وظل ملازما لابن باجة لفترة طويلة، كان كثير الشراب رقيق الشعر، له:
قُمْ هَاتِ كَأْسَكَ فالنعيمُ قد اتَّسَقْ   والعُـود عَنْ دَاعِي المَسَرَةَ قَدْ نَطَقْ
ولَدَيْك من حَثِّ الكُؤوسِ أَزَاهِرًا   في الخِزَّ يَمْرَحُ كالأَرَاكَة في الوَرِقْ ( )
ومن المهام السياسية العظيمة التي أوكلت لليهود مشاركتهم في دبلوماسية الدولة، حيث شغلوا منصب السفراء فقد شاركوا في البعثات التي كان يرسلها أمراء الدولة الإسلامية إلى ملوك الدولة المجاورة ومثالنا في ذلك "سفارة ألفونسو إلى المعتمد بن عباد لأخذ الجزية منه عن ممثّله اليهودي ابن شاليب الذي تطاول على المعتمد فلقي حتفه على يده" ( ).
والمعتمد بدوره كان له سفير يدعى ابن مشعل اليهودي استعمله في علاقته مع ألفونسو. وأما فيما يخص العصر المرابطي لم نعثر في المصادر على شخصيات يهودية تولت مهام السفارة، ربما لسياسة الدولة الداخلية التي تشددت في التعامل معهم من ناحية تولي المناصب الإدارية، وقد ورد ذلك على لسان علي بن يوسف في رسالته " وكذلك نؤكد لكم أتم التأكيد عن أمر أهل الذمة ألا يتصرف أحد منهم في أمور المسلمين لأنه من فساد الدين"( ).
وقد يرجع ذلك إلى أن الدولة المرابطية مترامية الأطراف وهي أول دولة وحدت بين المغرب والأندلس، فمن ثمّ تعددت المواهب وكثر أصحاب المعارف من المسلمين على حين في دولة الطوائف كانت عبارة عن دويلات صغيرة بحيث لم تتوفر إلاّ على قلّة من ذوي الكفاءات تصلح لخدمة البلاط "فاستعين باليهود ممن ظهرت مواهبهم في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية فصارت لهم صولة في دولة الإسلام" ( ).
ومن مظاهر التسامح الديني تلك الامتيازات الخاصة التي تمتع بها اليهود فقد نشطت الحركة الدينية اليهودية وأصبح التأليف في مفاهيمها ومبادئها رائجا في الأوساط الفكرية. فقد سبق وأن أشرت إلى تمكن اليهود من اللغة العربية إلى جانب لغتهم العبرية وكان منهم الأدباء والشعراء ممن نالوا الحظوة وذاع صيتهم كل ذلك هيأ لهم المجال واسعا لأجل التأليف متأثرين بالثقافة الإسلامية حيث اقتفى عدد من الشعراء اليهود آثار الأدب العربي وتمثلوا صوره "حتى أول نحوي علمي للغة العبرية وضعه أبو زكريا حيوح العالم اليهودي باللغة العربية" ( ) كما نظم ابن جرول اليهودي من علماء القرن الخامس هجري "قواعد النحو العبري في قصيدة عبرية جعلها أربعمائة بيت من بحر الرجز" ( ) ويضيف بلانثيا أن هذا العالم كان "كثير التحسّر على انصراف إخوانه في الدّين من أهل سرقسطة عن لغتهم المقدّسة ويسمّيهم الجماعة العمياء، على أنه هو في حد ذاته كانت كتاباته باللغة العربية" ( ) وقد بلغت حرية النشاط الديني ذروتها مع إسحاق الفاسي اليهودي الذي خلف موسى عزرا في منصب "حبر غرناطة" في بداية القرن السادس هجري "ولعب دورا أساسيا في التكوين الديني ليهود الأندلس" ( ).
كما قويت شوكتهم بظهور "المدارس التي تعمل على إحياء التراث اليهودي وتجديد الدراسات اليهودية على ضوء ما وصل إليه الفكر الإسلامي من تطور مغتنمين الحرية المتاحة لهم" ( ). فقد وضع "يهود شويج الفاسي قاموس العبرية" ( ) ومباحث قيمة عن الإنشاء والترقيم في اللغة العبرية كما كانت "الشخصيات البارزة تنظم القصائد  والموشحات بالعبرية  ويغتنمون الفرص المناسبات ليرتجلوا أشعارهم فيها" ( ).
وهكذا انتعشت الحركة الفكرية اليهودية في ظل الدولة الإسلامية متأثرة بالثقافة العربية أولا وهذا دليل قائم على روح التسامح مع أهل الذمة.
ومع كل ما تقدم ثمة حقائق لابدّ من الإشارة إليها فكثيرا ما تذكر المصادر أن اليهود بقدر ما تمتعوا به من نفوذ وسلطة وجاه في عهد الطوائف دارت عليهم الدوائر في العصر المرابطي لاسيما مع بداياته. في عهد يوسف ابن تاشفين مما جعل المستشرق بروكلمان يقول: "لما تم السلطان للمرابطين انتهى اليهود إلى حال من العسر بالغة "( ). وهذا أمر يبدو طبيعيا فقد حمل يوسف بن تاشفين لواء الجهاد والتمكين لدين الله في الأندلس بعدما رأى تخاذل ملوكها وتفرقهم ثم تسلط اليهود الذين أباحوا أموال المسلمين ودماءهم، فليس من المعقول لدولة رفعت راية الجهاد وأقرت مبدأ السنة منهجا لسياستها أن "تسمح لهؤلاء الاحتفاظ بمكانتهم الرفيعة بين الرعايا المسلمين" ( ).
لذلك خيّرهم يوسف بن تاشفين بين اعتناق الإسلام أو دفع الجزية فاضطر "يهود إلياسنة وهم أغنى اليهود في الأندلس أن يشتروا حرية العبادة بجزية ثقيلة" ( ). وقد شجّعه على ذلك أحد فقهاء قرطبة الذي "زعم أنه وجد في بعض أوراق مؤلف صنّفه ابن مسرّة القرطبي حديثا منسوبا إلى النبي  يروي أن اليهود تعهدوا بأن يؤمنوا بالدين العربي ويعتنقوا الإسلام إذا حلت المائة الخامسة من الهجرة". ( ) فلمّا تراءى له مبدأ لا إكراه في الدّين عدل عن رأيه واكتفى بإرغامهم على دفع جزية ثقيلة سدّ بها يوسف بن تاشفين نفقات الدولة المتزايدة.
ومع ذلك تعالت أصوات الفقهاء تدعو إلى التشدّد في التعامل مع اليهود من خلال كتب الحسبة التي حدّدت الكثير من العلاقات معهم كالذي أورده ابن عبدون في رسالته يقول: "أن لا يحك مسلم ليهودي ولا لنصراني، ولا يرمي زبله، ولا ينقي كنيفه. فاليهودي والنصراني كانوا أولى بهذه الصنع لأنها صنع الأذليـن، ولا يخدم مسلم دابة يهودي ولا نصراني.." ( ). كما قال "بقطع ضرب النواقيس في ديار الإسلام وحمل القسيسين على الزواج ومراقبة الكتب التي يبيعها اليهود والنصارى عدا كتب ملّتهم، ومنع أطباء اليهود والنصارى من معالجة المسلمين" ( ).
ومن هنا "لم يسمح المرابطون لليهود بالسكن في المدن التي أحدثوها إذ كانوا يسمحون لهم بدخول مراكش نهارا والسكنى في أغمات" ( )، والملاحظ أن هذا الإجراء لم يتّخذ في حقّهم اعتباطا أو تعسّفا إنما على سبيل الاحتياط، وذلك نظرا للظروف الاقتصادية الصعبة التي كانت عليها الدولة، ولتضارب الأحوال الداخلية من فتن واضطرابات من "لدن ظهور المهدي بن تومرت ثم لتكالب النصارى على دولة الإسلام، وقد كانت لهم  مشاركة  واضحة للنصارى في حربهم ضد المرابطين" ( ).
وازداد الحرص أكثر بعد تغريب النصارى، "فضيقوا عليهم الخناق خوفا من عمليات التجسس لاسيما وأن مراكش عاصمة الدولة ومركز لتجمعات الجيش وما يتّصل به من خطط وتحركات عسكرية" ( ). إلاّ أن البعض أرجعها إلى سياسة بعض الحكام المرابطين التي تهدف إلى إدخال اليهود في الإسلام لذلك كان التضييق عليهم.
وهكذا يتبين لنا أن وضعية اليهود تراوحت بين الشدة والرخاء وذلك تبعا للظروف الاقتصادية والسياسية للبلاد إلاّ أن ذلك لم يمنعهم من المشاركة الفعلية في ازدهار البلاد في مختلف مجالات الحياة، وقد احتكروا زمن المرابطين خطة" الفكاكة". والفكاك هو "القائم على فكّ وفداء أسرى المسلمين والتجول في الممالك الأوربية وفي دار الإسلام والأندلس خاصة لفك الأسرى" ( ) فأيّ ثراء لهؤلاء ! وأيّ اضطهاد افتراه البعض على المرابطين؟
وإجمالا يمكن القول إن أهل الذمة شكّلوا طبقة مهمة في المجتمع الأندلسي لعهدي الطوائف والمرابطين وقد نعموا في ظلّ تسامح الإسلام بحرّية المعتقد فنشطوا في مختلف المجالات وساهموا مساهمة فعّالة في البناء الحضاري والرقي الاقتصادي، وتبوؤوا المكانة الرفيعة إذ أسندت إليهم الوظائف العلية. فقابلوا التسامح بالغدر والأمانة بالخيانة. وقد عدّدت المصادر جوانب من "غدرهم لما يخفون في أنفسهم من عداوة لأهل الإسلام" ( ).

4 commentaires:

اتمني اضافه المراجع والمصادر ضروري وشكرا

ممكن المصادر والمراجع المستخدمة في المقال

اتمنى ان تكون هناك مصادر في الهوامش

إرسال تعليق