الاثنين، 16 يونيو 2014

النقد الاجتماعي في الأندلس./سامية جباري


ان الحياة الصاخبة التي عاشها الأندلسيون تحت وطأة حكام مستبدين ظَلَمة، جعلتهم ينفرون من سوء الأوضاع الاجتماعية، ومن الصراع الطبقي الذي ضيّق عليهم الخناق، فمنهم من هرب نحو الملاهي، ومجالس الأنس والشراب راميا بكلّ القيّم عرض الحائط، منغمسا في لذّاته، ومنهم من فضّل العزلة والانكماش واجدا ملاذه في الزهد والابتعاد عن المغريات، مجتهدا في التبتل والعبادات عساه ينال الرضا والثواب، ومنهم من لم يرقه حال البلاد وهي تضيع في أيدي حكّام وساسة تقودهم الأهواء، لا همّ لهم سوى قينة تغني وقصر يشيّد ومال يدخّر ومظاهر تخدع؛ غير مبالين بالأندلس وهي تسقط مدينة مدينة في أيدي العدّو المتربص.
وفي ظلّ هذه التناقضات التي حفلت بها الحقبة مدار الدراسة، وفي ظلّ نفسية الأندلسي القلقة إزاء الفساد الاجتماعي والانهيار الأخلاقي، علا صوت بعض الشعراء ينتقدون هذه السياسة الظالمة لتبدو لنا من خلالهم ملامح المجتمع الأندلسي أكثر وضوحا، علما أن ما وصلنا من هجاء ونقد قليل بالقياس إلى ما قيل، وأغلب الظنّ هو ترّفع بعض المؤرخين عن التصريح بالكلام الفاحش، فكان السكوت عنه أوجب، كما فعل الحميدي عند تعرضّه للشاعر اليحصبي، فقد قال عنه: "ولليحصبي عندي أهاج قبيحة كرهت أن أوردها عنه" ( )، ومثله فعل ابن بسام إذ نزّه مؤلَّفه عن قبيح القول. ( )
ثم إن موقفهم هذا نتج عن أثر أخلاقي محض، لأن تورّط بعض الشعراء في الهجاء إلى حدّ الإقذاع والإفحاش هو الذي جعل الكتّاب والمؤرخين يصونون مؤلفاتهم عنه.
والذي يهمّنا في هذه الدراسة ليس الهجاء الموجه إلى أشخاص معينين بقدر ما سأصبّ جّل اهتمامي على النقد السياسي الموجه إلى الطبقة الحاكمة فأكشف عن نقمة العامة وعن أوجه الانحلال والفساد.
وأقصد بالهجاء السياسي ذلك الشعر الذي يصدر فيه صاحبه عن عصبية للوطن، أو الدين، أو الجنس، أو الطائفة، ويذم فيه "حاكما من الحكام، أو أهل دين، أو جنس من الأجناس". ( )
أولا: نقد الحكام والفقهاء
1- الحكام:
فأمّا نقد الحكام فقد وردت مقطوعات تندّد بسياستهم الظالمة واشتطاطهم في فرض الضرائب بغير الحق، ثم تقاعسهم عن صدّ العدّو الذي اقتطع الأندلس وهم في غمرة ساهون.
كما أعطانا ابن الكردبوس وصفا دقيقا لهذا المجتمع بقوله إنهم "مشغولون بشرب الخمر، واقتناء القيان، وركوب المعاصي، وسماع العيدان، وكل واحد منهم يتنافس في شراء الذخائر الملكية... إلى أن ضعف الطالب والمطلوب، وذلّ الرئيس والمرؤوس، وافتقرت الرعية، وفسدت أحوال الجميع بالكلية، وزالت من النفوس الأنفة الإسلامية" ( ).
يقول ابن الجدّ واصفا حال ملوك الطوائف ناقدا سياستهم:
أَرَى الملُـُوكَ أَصَابَتْـهُمْ بِأَنْدَلُـسٍ      دَوَائِرُ السُّوءِ لاَ تُبْقِي وَلاَ تَـذَرُ
نَامُوا وَأَسْرَى لَهُمْ َتحْتَ الدُّجَى قَدَرٌ      هَوَى بِأَنجُمِهِمْ خَسْفاً فَمَا شَعَرُوا
وَكَيْفَ يَشْعُـرُ مَنْ ِفي كَفِّهِ قَدَحٌ        َيحْدُو بِهِ مُلْـهَيَاهُ النَّايُ وَالوَتَـرُ
صُمَّتْ مَسَامِعَهُ عنْ غَيْرِ نَغْمَتِـهِ         مِمَّا َتمُرُّ بِهِ الآيـَاتُ وَالسُّـوَرُ
تَلْقَاهُ كَالفَحْلِ مَعْبُودًا ِبمَجْلِسِـهِ         لَهُ خُوَارٌ وَلَكِنْ حَشْوُهُ خَـوَرُ ( )
 وقد هجا ابن غصن الحجاري المأمون بن ذي النون لإصراره على ضم مدينة وادي الحجارة إلى مملكة طليطلة دون وجه حق:
تَلَقَّبَ بِالمَأْمُونِ ظُلْمًا، وَإِنَّـِني         َلآمَنُ كَلْباً حَيْثُ لَسْتُ مُؤَمِّنَـهْ
حَرَامٌ عَلَيْهِ أَنْ يجَـُودَ بِشَـرِّهِ        وَأَمَّا النَّدَى فَانْدُبْ هُنَالِكَ مَدْفَنَهْ
سطُورُ المَخَازِي دُونَ أَبْوَابِ قَصْرِهِ    ِبحُجَّابِهِ لِلْقَاصِـدِينَ مُعَنْوَنَهْ ( )
 ويعترض السميسر على سياسة باديس التي تقوم على الاستعانة بغير المسلمين في إدارة شؤون دولته، إذ بعدما مات الوزير اليهودي أخلفه بوزير نصراني فكانت النتيجة واحدة، يقول:
       كُلّ يَوْمٍ ِإلىَ وَرَا        بُـدِّلَ ...........
        فَزَمَاناً تَـهَوَّدَا         وَزَمَـاناً تَنَـصَّـرَا
      وَسَيَصْبُو إِلىَ المجُو        سِ إِنِ الشَّيْخُ عَمَّرَا ( )
وهذا انتقاد لاذع لباديس الذي حكمّ اليهود والنصاري على رقاب المسلمين الذين ما فتئوا يستعملون كلّ الطرق الظالمة للنيل من الرعية.
ومن الظواهر التي أدّت إلى السخط عنهم تقاعسهم عن الجهاد لصدّ العدّو إذ يرى السميسر في هذا المسلك خيانة للإسلام:
نَادِ المُلُوكَ وَقُلْ لَهُمْ         مَا الذِّي أَحْـدَثْتُمُ
أَسْلَمْتُمُ الاِسْلاَمِ في        أَسْرِ العِدَى وَقَعَدْتُمُ
وَجَبَ القِيَامُ عَلَيْكُمُ        إذْ بِالنَّصَارَى قُمْتُمُ
لاَ تَنْكِرُوا شَقَّ العَصَا       فَعَصَا النَبِيِّ شَقَقْتُمُ ( )
وكانت مصانعة النصارى دافعة لانتقاد الحكام، إذا رأيناهم يلجأون إلى الأذفونش مستسلمين خاضعين له بالرقاب وبالجزي من أجل أن ينصرهم على بعضهم البعض، وفي هذا ينتقد السميسر عبد الله بن بلقين الذي سارع وترامى بين يديه ليرّد المرابطين عنه فكان مثار سخريته:
صَاحِبُ غَرْنَاطَةٍ سَفِيـْه       وَأَعْلَمُ النَّاِس بالأُمُورِ
صَانَعَ أَذْفُونَشِ النَّصَارَى        فَانْظُرْ إلى رَأْيِهِ الدَّبِيرِ
وَشَادَ بُنْيَانَـهُ خِلافًـا         لِطَاعَةِ اللهِ والأَمِيـرِ
يَبْني على نَفْسِهِ سِفَاهًا         كَأَنَّهُ دُودَةُ الحرِيـر
دَعُوهُ يَبْني فَسَوفَ يَدْرِي       إذَا أتَتْ قُدْرَةُ القَدِيرِ( )
وقد يكونه الهجاء من صديق غادر، كالذي حدث مع المعتمد ووزيره ابن عمّار، عندما خان عهده، وفضّل انتزاع مرسية لنفسه، كانت بينهما مراسلات شعرية وصلت إلى حدّ الهجاء اللاذع، من صوّر ذلك ما تعرّض فيه ابن عمّار إلى السخرية بالمعتمد معرضا بعائلته وأجداده الذين جرّدهم من كلّ مجد وشرف، وألحق بهم أبشع الصفات وأقبحها منها قوله:    
أَلاَ حَيِّي بِالغَرْبِ حَيَّا حَلاَلَا       أَنَاخُوا جِمَالاً وَحَازُوا جَـمَالاَ
وَعَـرِّجْ بِيومين أَمِّ القُـرَى       وَنَمْ فَعَسَى أَنْ تَرَاهَا خَيـَالاَ
لِتَسْأَلْ عَنْ سَاكِنِيهَا الرَّمَـادَ       وَلَمْ تَرَ لِلنَّارِ فِيـهَا اشْتـِعَالاَ
أَرَاكَ تُـوَرِّي بحُبِّ النِّسَـاءِ وقَديمًا عَهِدْتُكَ تهْوَى الرِّجَالا
تخَيَّرْتَـهَا مِنْ بَنَاتِ الهِجَـانِ رُمَيْكِيَّةً ما تُسَـاوِي عُـقَالا
فَجَاءَتْ بِكُلِّ قَصِيرِ العِـذَارِ لَئِيمِ النِّجَارَيْنِ عَمًّـا وخَالا
   سَأَكْشِفُ عِرْضَكَ شَيْئًا فَشَيْئًا  وأَهْتِكُ سِتْرَكَ حَالا فَحَالا( )
وأحيانا يقف الشاعر موقف الساخر المتشفي، فهذا ابن زيدون لم يتمالك نفسه عند سماعه بموت المعتضد طاغية إشبيلية، فقال:
لَقَـدْ سَرَّنِـي أَنَّ النَّـعِيَّ مُوكَّـلٌ      لِطاَغِـيَةٍ قَدْ حَّمَ مِنْهُ حِـمَامُ
تَجَانَبَ صَوْبَ الغَيْثِ عَنْ ذَلِكَ الصَدَا    وَمَرَّ عَلَـيْهِ المُزْنِ وَهُوَ جَهَامُ ( )
وكان ملوك الطوائف مثار سخرية ابن الجدّ، فيقف متشفيا لزوال ملكهم، وما صاروا إليه من ذلّ بعد عزّ، وهلاك بعد سلطان:
     رِدُّوا مَوَارِدَ قَدْ أَوْرَدْتُمُ خَـنَقًا    بِهَا الأَنَام وَلَكِنْ مَا لَكَمُ صَـدَرُ
    كَأَنَّنِي بِكُمُ قَدْ صِرْتُمُ سَمَـرًا      وَمَالَكُمْ في الوَرَى عَيْنٌ وَلاَ أَثَـرُ
    أَمَاتَكُمْ قَبْلَ مَوْتٍ سُوءُ فِعْلِكُمُ     وكيْفَ بالذِّكرِ إن لم تحْسُنِ السِّيرُ ( )
يدعمّ هذا الموقف السميسر بقوله:
خُنْتُمْ فَهُنْتُمْ وَكَمْ أَهَنْتُمْ         زَمَانَ كُنْتُمْ بِلاَ عُيُونْ
فَأَنْتُمْ تَحْتَ كُلِّ تَحْتٍ         وَأَنْتُمْ دُونَ كُلِّ دُونْ
سَكَنْتُمْ يَا رِيَاحَ عَـادٍ         وَكُلُّ رِيحٍ إِلىَ سُكُونْ ( )
وإذا كانت هذه الأهاجي خصّت ملوك الطوائف فإن أمراء المرابطين لم يسلموا من انتقادات، فقد تأثروا بحياة الحضارة كما أسلفنا، وظهرت في دولتهم مناكر كثيرة الأمر الذي حذا بالشعراء إلى انتهاج سياسة النقد وأبرزهم في ذلك اليكي وابن الأبيض.
قال اليكي مشنّعا بالمرابطين ومندّدا بجورهم وعجزهم عن الدفاع عن الأندلس:
  إِنَّ المُرَابِطَ لاَ يَكُونُ مُرَابِطاً حَتَّـى إِذَا تَـرَاهُ جَبانـَا
        تَجْلُو الرَعِيَّةُ مِنْ مَخَافَةِ جَوْرِهِ لِجَلاَئِهِ إِذْ يَلْتَقِي الأَقْرَانـاَ
 إِنْ تَظْلِمُونَا نَنْتَصِفْ لِنُفُوسِنَا       يَجْنِي الرِّجَالَ فَنَأْخُذُ النِسْوَاناَ ( )
 وقال في موضع آخر يعيب تحضّرهم، وانغماسهم في حياة الدّعة والشراب التي أنستهم أصلهم البدوي، وأفقدتهم قيمهم وأخلاقهم الأصيلة:
ِ  في كُـلِّ مَنْ رَبَطَ اللِّثاَمَ دَنَـاءَةٌ     وَلَـوْ أَنَّهُ يَعْلُـو عَلَى كِيـوَانِ
  مَا الفَخْرُ عِنْدَهُمْ سِوَى أَنْ يُنْقَلُوا     مِنْ بَطْنِ زَانِـيَةٍ لِظَهْرِ حِصَـانِ
   المُنْتَمُـونَ لِحِمْيَـرٍ لَكِـنَّهُـمْ      وَضَعُوا القُرُونَ مَوَاضِعَ التِيجَانِ
  لاَ تَطْلُبَـنَّ مُرَابِطـًا ذَا عِفَـةٍ     وَاطْلُبْ شُعَاعَ النَّارِ في الغُدْرَانِ ( )
أما ابن الأبيض فتراه ينتقد سياسة والي قرطبة الزبير بن عمر، فإذا كان الناس يعكفون على الصلاة تهجدا وخشوعا، فالزبير يعكف على الضلالة فسقا وفجورا:
عَكَفَ الزُّبَيْرُ عَلَى الضَّلاَلَةِ سَائِسًا     وَإِمَامُهُ المَـشْهُورُ كَلْبُ النَّـارِ
مَازَالَ يَأْخُذُ سَجْدَةً في سَجْـدَةٍ     بَيْـنَ القِيـَانِ وَرَنَّةْ الأَوْتَـارِ
فَإِذَا اعْتَرَاهُ السَّهْـوُ سَبَّحَ خَلْـفَهُ    صَوْتُ الكِرَانِ وَصَرْخَةُ المِزْمَارِ ( )
2 – الفقهاء ورجال الدين:
لقد أشرنا سابقا في حديثنا عن الفقهاء والقضاة إلى ما تمتعوا به من مكانه اجتماعية، ونفوذ واسع ممثلين السلطة الروحية التي اعتمدت عليها الدولة في إرساء دعائم حكمها، فكانوا لها أكبر معين في تبرير طغيان الملوك وظلمهم، لذا كانوا محّل أنظار الجميع، يتتبعّون عوراتهم، ويشنّعون بأخطائهم وخصالهم، فرموهم بأكل الرشوة، والتكالب على الدنيا، والبخل، والرياء، والنفاق، وأكل أموال اليتامى، والوشاية، والشذوذ الجنسي، والمجون، وغيرها من المساوئ.
لم يفت الشاعر أبا بكر الأبيض أن يبرّى الإمام مالك في هجائه للفقهاء المالكيين، فهو يرمي بجّل اتهاماته إلى هؤلاء الفقهاء الذين استغلوا الدين كوسيلة للوصول إلى غايتهم الدنيوية الدنيئة، كقوله:
 قُلْ لِلإِمَامِ سَنَا الأَئِمَّةَ مَالِكٍ      نُور العُيُونِ وَبهَْجَةَ زَادِ الأَسْمَاعِ
ِللهِ دَرُّكَ مِنْ إِمـَامٍ  عَـادِلٍ      قَدْ كُنْتَ رَاعِيناَ وَنِعْـمَ الرَّاعِي
       فَمَضَيْتَ مَحْمُودَ النَّقِيبَةِ طاَهِراٌ    وَتَرَكْتَنَا جُزْرًا لِشَـرِّ سِبـَاعِ
أَكَلُوا بِكَ الدُّنْيَا وَأَنْتَ ِبمَعْزِلٍ     طاَِوي الحَشَا مُتَكَفِّنِ الأَضْلاَعِ
  تَفْدِيكَ دُنْياَ لمَ ْتَزَلْ بِكَ بَرَّة       مَاذَا رَفَعْتَ لهَاَ مِنَ الأَوْضاَعِ ( )
 ثم يعرّض بهم في مقام آخر، ويرميهم بالرياء، واستغلالهم كلّ السبل لتحقيق المزيد من الثروات وكسب الأموال والإقطاع:
      أَهْلَ الرِّياَءِ لَبِسْتُمُ نَامُوسَكُـمْ     كَالذِئْبِ يَخْتَلُ في الظَّلاَمِ العَاتِمِ
      فَمَلَكْتُمُ الدُّنَياَ ِبمَذْهَبِ مَالِـكٍ    وَقَسَمْتُمُ الأَمْوَالَ بِابْـنِ القَاسِمِ
     بِأَشْهَبٍ شُهْبَ البِغاَلِ رَكِبْتُمْ      وَبِأَصْبَغٍ صُبِغَتْ لَكُمْ ِفي العَالمَِ ( )
أما ابن سارة الشنتريني فشبّههم بالذئاب التي تحتال لأجل الانقضاض على فرائسها فرماهم بقوله:
            يَا ذِئَابًا لَنَـا ِفي      ثِيـَابٍ مُلَوَّنَـة
            أَحْلاَلاً رَأَيْتُـمُ      أَكْلَنَا في المُدَّوَنَة ( )
أما عن ارتشائهم وظلمهم فيقول ابن الزقاق:
   قَاضٍ يَجُورُ عَلَى الضَّعِيفِ وَرُبَّماَ    لَقِيَ القَوِيَّ بِمِثْلِ حِلْمِ الأَحْنَفِ
   لَعِبَتْ بِطَلْعَتِهِ الرٌّشَا لَعِبَ الرَشاَ      بِفُؤَادِ خَفَّاقِ الجَوَانِحِ مُدْنَفِ ( )
ويقول أبو الحسن بن طراوة فيهم:
إِذَا رَأَوْا جَمَلاً يَأْتِي عَلَى بُعُدٍ      مَدُّوا إْلَيْهِ جمَِيـعاً كَفَّ مُقْتَنِصِ
إِنْ جِئْتَهُمْ فَارِغاً لَزُّوكَ ِفي قَرَنٍ     وَإِنْ رَأَوْا رَشْوَةً أَفْتَوْكَ بِالرُّخَصِ ( )
إلى جانب أكلهم الرشوة ومال اليتيم، فهم لا يتورعون عن شهادة الزور:
إِنـاَّ إِلىَ اللهَِ مَاذَا حَلَّ بِالدِّيـنِ      مِنْ الطِوَّالِ اللِّحَى البِيضِ العَثاَنِينِ
بَاعُوا رِضَا اللهَِ وَابْتَاعُوا مَسَاخِطَهُ     وَغَـَّيرُوا الشَّـرْعَ بِاللهِ لِلدِّيـنِ
أَضْحَتْ شَهَادَتهَمُ ْبِالزُّورِ نَاطِقَةً      إِنَّ الشُّهُودَ َلأَعْـوَانُ الشَيَاطِينِ ( )
ويتوجه اليكيّ بهجائه إلى أحد الفقهاء مستهزئا به:
أَعِدِ الوُضُوءَ إِذاَ نَطَقْتَ بِهِ         مُتَذَكِّرًا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَنْسَى
وَاحْفَظْ ثِيَابَكَ إِنْ مَرَرْتَ بِهِ فَالظِّلُ مِنْهُ يُنَجِّسُ الشَمْسَا ( )
كما يسخر ابن البنّي من القاضي ابن حمدين ويرميه بالبخل مستهزئا:
أَدَجَّالٌ هَذاَ أَوَانُ الخُـرُوجِ وَيَا شَمْسُ لُوحِي مِنَ الغَرْبِ
 يُرِيدُ ابْنُ حمَدِين أَنْ يَعْتِفِى وَجَدْوَاهُ أَنْأَى مِنَ الكَوْكَبِ ( )
ويصوّر ابن مغاور أحد قضاة عصره سكّيرا مدمنا:
  لاَ تَظُنـُّوا ابْنَ بِيـشِ     في قَـضَايـَاهُ يَرْتَشِـي
  إِنَّمَا الشَّيْـخُ هَلْهَـلَ     فَهُو َيَصْحُـو وَيَنْتَشِـي
  فَتَرَى الحُكْمَ غُـدْوَةً     وَتَرَى النَقْـضَ بِالعَشِّي ( )
ويتعرض اليكي إلى فقيه اجتمعت فيه كل الخصال الدنيئة بهجاء لاذع يقول:
ثَمَاِني خِصَالٍ ِفي الفَقِيهِ وَعِرسه وَثِنْتَاِن وَالتَحْقِيقُ بِالمَرْءِ أَلْيَـقُ
........... فِعْلَهَا مِثْلَ فِعْلِـِه فَإِنْ .... لَوْماً فَلاَ شَكَّ .....
وَيَكْذِبُ أَحْيَانًا وَيَحْلِفُ حَانِثًا وَيَكْفُرُ تَقْلِيدًا وَيَزْنِي وَيَسْرِقُ
وَعَاشِرَةٌ وَالذَنْبُ فِيهَا ِلأُمَّـةٍ     إِذَا ذُكِرَتْ لمَ ْيَبْقَ لِلْشَتْمِ مَنْطِقُ ( )
3- نقد اليهود:
رأينا سابقا اعتماد الملوك على ذوي الكفاءة من أهل الذمة في تحصيل الضرائب من المسلمين، والذين عملوا بدورهم على فرض سياسات قمعية  لتحصيلها، تحركهم أحقاد الدفينة ورغبتهم الملحة في الوصول إلى أسمى المناصب في الدولة، مستغلّين كلّ الطّرق لإذلال الرعية، شعورا منها بالأفضلية.
إلا أن هذه السياسة لم ترق بعض الشعراء، فانتقدوها بشدّة، ولاحت أشعارهم تفضح هذا السلوك اللاأخلاقي، كقول ابن الجد:
   تَحَكَمَّتِ اليَهُودُ عَلَى الفُرُوجِ     وَتَـاهَتْ بِالبِغَالِ وَبالسُّـرُوجِ
  وَقَامَـتْ دَوْلَةُ الأَنْـذَالِ فِيناَ وَصَارَ الحُكْمُ فِـينَا لِلْعُلُـوجِ
  فَقُلِ لِلأَعْـوَرِ الدَّجَـالِ هَذَا زَمَانُكَ إِنْ عَزَمْتَ عَلَى الخُرُوجِ ( )
كما توجّه الشاعر أبو حفص الزكرمي ينقد سياسة أهل دانية المخالفة للشريعة، إذ سمحوا لليهود بالتسلّط على رقاب المسلمين، مستنكرا هذا الوضع بقوله:
       ياَ أَهْلَ دَانِيَةٍ لَقَدْ خَالَفْتُـمُ     حُكْمَ الشَّـرِيعَةِ وَالمُرُوَّةِ فِينَا
      مَاِلي أَرَاكُمْ تَأْمُرُونَ بِضِدِّ مَا     أَمَرَتْ: تُرَى نَسَخَ الإِلَهُ الدِّينَا
     كُنَّا نُطَالِبُ اليَهُودَ بِـجِزْيَةٍ      وَأَرَى اليَهُودَ ِبِجزْيَةٍ طَلَبُونَـا
      مَا إِنْ سَمِعْنَا مَالِكاً أَفْتَى بَذَا    لاَ لاَ وَلاَ مِنْ بَعْدِهِ سَحْنُوناَ ( )
والأخطر من توليهم المناصب العليا في الدولة هو محاولة إنشاء دولة يهودية خالصة لهم بألمرية على يد زعيمهم يوسف بن النغريلة في زمن ملوك الطوائف، يقول في هذا الشأن ابن عذاري: "وذلك إن هذا اللّعين طلب أن يقيم لليهود دولة فدسّ إلى ابن صمادح صاحب ألمرية في السرّ أن يدخله غرناطة ويكون اليهودي في ألمرية." ( ) ممنّيا نفسه بأن يصبح الحاكم الفعلي لها. ( )
وقد أدرك أبو إسحاق الإلبيري خطورة هؤلاء في تدبيرهم الساعي للنّيل من الدولة الإسلامية، فتوجّه إلى أهل صنهاجة يدعوهم إلى تغيير المنكر:
أَلاَ قُلْ لِصَنْهَاجَةٍ أَجْـمَعِيْن بُدُورِ النَّدَى وَأُسْدِ العَرِينِ
 لَقَـدْ زَلَّ سَيِّدُكُـمْ زَلَّةً تَقَرُّ ِبهَا أَعْيُـنُ الشَامِتِيـنَ
تَخَيَّـرَ كَـاتِبَـُه كَافِـرًا وَلَوْ شَاءَ كَانَ مِنَ المُسْلِمِينَ
   فَعَـزَّ اليَهُودُ بِهِ وَانْتَخَـوا وَتَاهُوا وَكَانُوا مِنَ الأَرْذَلِينَ
  وَنَالُوا مُنَاهُمْ وَجَازُوا المَدَى فَحَانَ الهَلاَكُ وَمَا يَشْعُرُونَ
  فَكَمْ مُسْلِمٍ فَاضِلٍ قَانِـت لأَرْذَلِ قِـرْدٍ مِنَ المُشْرِكِينَ
  وَمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ سَعْيِهِمْ وَلَكِـنْ مِنَّا يَقُومُ المُعِيـنَ
ثم يتوجه إلى باديس يعاتبه على استعانته باليهود، ووضعه الثقة في غير مستحقيها:
أَبَادِيسُ أَنْتَ امْرُؤٌ حَاذِقٌ  تُصِيبُ بِظَنِّكَ نَفْسَ اليَقِينِ
ثم يطالبه بالتنكيل باليهود معطيا كل المبررات التي تجعل من الفتك بهم واجبا فيخلص لقوله:
فَبَـادِرْ إِلىَ ذَبْحِـهِ قُرْبَـةً وَضَحِّ بِهِ فَهُوَ كَبْشٌ سَمِـينْ
وَلاَ تَرْفَعِ الضَغْطَ عَنْ رَهْطِهِ فَقَدْ كَنَزُوا كُلَّ عِلْقٍ ثَمِـين
وَلاَ تَحْسِبْنَ قَتْلَهُمْ غَـدْرَةً بَلِ الغَدْرُ ِفي تَرْكِهِمْ يَعْبَثُونَ ( )
وقد كان لهذه الأبيات صدى واسعا، حيث قامت على إثرها ثورة عارمة ضدّ اليهود وقتل عدد كبير منهم.
4- نقد البربر:
لقد شكل البربر عنصرا بارزا في المجتمع الأندلسي، إذ كان لهم الفضل في فتح الأندلس سنة 92 هـ بقيادة طارق بن زياد، كما أنهم أبلوا بلاء حسنا لأجل التمكين للدولة الجديدة، فسجل التاريخ بطولاتهم وأمجادهم ثم تفانيهم إلى غاية سقوط الأندلس حيث لم يكن يستغنى عنهم في جيوش رد العدوان النصراني، وطالما لبّوا نداء إخوانهم الأندلسيين بكل جرأة وشجاعة.
وقد ساعدتهم الظروف على أن يتحولوا من مجرد جنود وقادة إلى ملوك وأمراء، لاسيما في عصر الفوضى السياسية، فاستطاع المغامرون منهم اعتلاء عرش بعض الدويلات التي أضحت بموجب ذاك بربرية تعتز بشرف انتمائها.
وإن كان البربر قد فرضوا وجودهم في الدولة فإنهم لم ينصهروا كليا مع عناصر المجتمع الأندلسي التي أشرت إليها آنفا، والملاحظ أن هذه الفئة لم تسلم بدورها من البطش والقسوة، وقد لاقت على عهد الطوائف ألوانا من الغدر والفتك لاسيما على يد المعتضد بن عباد الذي نكل بهم أشد تنكيل وقد ذكرت جانبا من قسوته مع رؤساء القبائل البربرية.
ولعل أبرز مثال على ميله الغريزي للعنف والقسوة ضد البربر طريقته التي غرس فيها رؤوس بعضهم، ولطالما أستمتع برؤياهم مستشعرا نشوة الانتصار والعظمة.
يرجع معظم المؤرخين قسوته هذه إلى النبوءة التي كانت تنغّص عليه مضجعه بأن دولته ستزول على أيدي البرابرة فجد في قتالهم وإبادتهم.
وقد وقف الشعراء مساندين له في جرمه بإعطائه شرعية قتالهم، فقد وصفهم ابن عمار باليهود في قوله:
شَقِـيَتْ بِسَيْفِكَ أُمَّـةٌ لم تَعْتَقِدْ    إلاَّ اليَهُودَ وإنْ تَسَمَّتْ بَرْبَـرَا
أَثمَرْتَ رُمحَكَ مِنْ رُؤُوسِ كُمَاتهِمْ    لما رَأَيْتَ الغُصْنَ يُعْشَقُ مُثْمِرَا( )
ولم يكتف بذلك بل وصفهم في مقام آخر بالخوارج فحق قتالهم لأجل نصرة الدين:
   وَفَيْتَ لرَبِّكَ في مَنْ غَـدَرْ         وأَنْصَفْتَ دِينَكَ ممَّنْ كَفَرْ
   تَعَاطَى الخَوَارِجُ حَتى بَرَزْتَ تُقَوِّمُ مِنْ خَدِّهَا مَا صَـعَرْ
  وكَمْ نُبْتَ في حَرْبهِمْ عَنْ عَلِيٍّ وَنَابَ عَنْ النَّهْرَوانِ النَّهَرْ( )
ثم إن الفئة الباغية التي حق فيها قوله تعالى: ﴿فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي..﴾ ( ).
فجادت قريحة ابن المعلم قائلا:
مَدُّوا إِلَيْكَ أَكُفَّ البَغْيِ فانجذَمَتْ    وقَدْ خَلَتْ منهُمُ بالسَّيْفِ أَقْفَاءُ
قَوْمٌ هُمُ نَبَذُوا الإِسْلامَ قَاطِبَـةً عَنْهُمْ كَمَا نَبَذَ الأمْوَاتَ أَحْيَاءُ( )
ويسخر في مقام آخر ابن عمار بباديس، ليس العيب في كونه حاكما، بل لأن أصله بربري يقول:
     كَأنيِ بِبَادِيسَ وقدْ حَطَّ رَحْلـَه    إِلىَ الفَرَسِ الطَّاوِي عنْ الفَرَسِ النَّّهْدِ
     إِلىَ الفَرَسِ الجَارِي به طَلقَ الرَدَى    سَرِيعًـا غَنِيًا عنْ لجِـَامٍ وعَنْ لِبْدِ
     يحَِنُّ إلىَ غَرْنَاطـَة فَوقَ مَتْنـِه    كَما حنَّ مَقْصُوصُ الجَنَاح إلىَ الوَرْدِ( )
أما على عهد المرابطين فالسخرية من البربر اتخذت طابعا آخر، حيث تعزز وجودهم بالأندلس وقد وجد سكان الأندلس تباينا في مستوى المعاملة معهم، حيث ظلوا في بداية دولتهم متمسكين بعاداتهم الصحراوية، لكن بدخول الترف إلى نفوسهم تغيروا فانمحت مع الجيل الثاني صورة الفرسان الذين أنقذوا الأندلس من الضياع، لتحل محلها الرغبة في التخلص منهم لقسوتهم وجفائهم، وتحركت نفسية العربي المتعصب لعرقه وعزته بالأفضلية على غيره، فظهرت بوادر ذلك في أشعارهم ورسائلهم وحتى في أمثالهم الشعبية.
كقول السميسر مستنكرا لفضلهم:
رَأَيْتُ آدمَ في نَومي فَقُلْتُ لَهُ       أبَا البَرِيَّةِ إنَّ النَّـاسَ قدْ حَكَمُوا
أنَّ البَرابِرَ نَسْلٌ مِنْكَ قال: إذَنْ     حَوَّاءُ طَالِقَةٌ إنْ كَانَ ما زَعَمُوا( )
ثم يأتي اليكي يسخر من اللثام الذي عرف به المرابطون وكان محل اعتزاز وافتخار ليصبح دليلا على الدناءة والوضاعة؛ يقول:
 في كُلِّ مَنْ رَبَطَ اللِّثامَ دَنـاءَةٌ       ولَـوْ أنَّهُ يعْلُـو عَلى كِيوَانِ
مَا الفَخْرُ عِنْدَهُمُ سِوى أنْ يُنْقَلُوا    مِنْ بطْنِ زانِـيةٍ لِظَهْرِ حَصَانِ
المنْتَمُـونَ لحِمْيَـرٍ لكِنَّهُـمْ        وَضَعُوا القُرُونَ مَوَاضِعَ التِّيجانِ
لا تَطْلُبَـنْ مُرَابِطًا ذَا عِفًَّـةٍ      واطْلُبْ شُعَاعَ النَّارِ في الغُدْرَانِ( )
 والسخرية من البربر لم تكن قصرا على المناوئين للحكم المرابطي بل حتى الموالين لهم، ومثالهم بن أبي الخصال، كاتب ديوان رسائل أمير المسلمين علي بن يوسف، فلما واتته فرصة النيل منهم لم يتركها تفته بل استغل خيبة أمل الحاكم المرابطي في جنوده أثناء انهزامهم في وقعة بلنسية ليظهر حقده الدفين فشنّع بهم ووبخهم بكل جرأة، مذكّرا إياهم بأصلهم البدوي الذي لا يصلح للمعالي قائلا:
"..أيْ بني اللئيمة وأعيار الهزيمة....يا فرقة خبثت سرائرها، وانفكت مرائرها، وطائفة انتفخ سحرها، وغاض على حين مدة بحرها، فقد آن للنعم أن تفارقكم وللأقدام أن تطأ مفارقكم حين ركبتموها جلواء عارية، ...لقد آن أن نوسعكم عقابا، وأن لاتلووا على وجه نقابا، وأن نعيدكم إلى صحرائكم ونطهر الجزيرة من رحضائكم." ( )
و كانت الرسالة سببا في غضب علي بن يوسف على كاتبه وعنفه على إثرها أشد تعنيف.    
وهكذا لم يسلم البربر من النقد والسخرية.



0 commentaires:

إرسال تعليق