الأحد، 8 يونيو 2014

رثاء الدول والممالك في الأندلس عصر الطوائف والمرابطين. د/سامية جباري


يعتبر الرثاء من فنون الشعر التقليدية التي تناولها شعراء الأندلس وأفاضوا فيها، فبكوا موتاهم من ملوك، ورؤساء، وأقارب، وأحبة، محاكين المشارقة في المعاني المؤثرة والصور البالغة، والعبارات الموجعة، ثم إنهم لم يقفوا عند هذا بل تعدّوه إلى ابتداع نوع جديد من الرثاء، نالوا به السبق على شعراء المشارقة، إذ وجدناهم يطوّرون مفهومه، ويصبغون عليه من درر المشاعر وفيض العواطف، هذا النوع الجديد هو "رثاء الدول والممالك"، حيث استطاع الأندلسيّون أن يجعلوه اتجاها قائما بنفسه و"بابا من أبواب الشعر أبدعوا فيه القول وأجادوا فيه الصياغة")  (.
إن المتتبّع للشعر الأندلسي طوال الخلافة الأمويّة بالأندلس يلمح غيابا ملموسا لهذا النوع من الرثاء، إذ كانت الدولة حينها في أوج سلطانها، تقود الفتوحات وتقهر الأعداء، وتضيف إلى مجدها حصونا وقلاعا.
أمّا بعدما تناثر عقدها، وتقاسم الدولة الزعماء والأشياخ، فقد دبّ الضعف في أوصالها ولم تعد مهيبة الجانب، لذا اجتمعت عدّة حوافز لدى شعراء الأندلس ساهمت في نشأة هذا النوع من الرثاء، وكانت عاملا مهمّا في صياغة معانيه وتطوير مفهومه. تقوم هذه الحوافز بشكل عام على نواح ثلاثة: "ناحية تتصل بالعدو الصليبيّ المتحفّز للانقضاض على الأندلس، وأخرى تتصل بما آل إليه الحكم الإسلاميّ في الأندلس، وثالثة تتصل بطبيعة الأرض الأندلسيّة وطاقاتها الجماليّة غير المتناهية التي تدفع ذوي الإحساس من الشعراء إلى التعلق المشبوب بها")  (.
فما كاد يحلّ القرن الخامس الهجريّ حتى انقلبت معه الموازين على مستويات مختلفة من تفكك اجتماعي، وضغط اقتصادي، وانهيار سياسي لدولة الإسلام. فالدولة أصبحت دولا والحاكم أصبح حكّاما، والمظاهر الخارجيّة لم تعد تغري أحدا، فتفرقت كلمتهم وزاد إسرافهم على أنفسهم وصرفهم عن الجهاد بمحاربة بعضهم البعض. من هنا أخذ العدو يتجرأ عليهم ويباغتهم بالإغارة من وقت لآخر فيفوز بالمدن والحصون. وهكذا، كلما مرّ الزمـن، "ازداد المسلمـون ضعفا وازداد الأعـداء تبعـا لذلك قـوّة وجرأة عليهـم")  (.
وعلى إثر المصاب الجلل الذي حلّ بالأندلس، نجد الشعراء في طليعة المدافعين عن الوطن والدّين، فجادت قريحتهم بقصائد طوال تنبئ عن حسرة وألم شديدين، فجاءت مراثيهم لمدنهم وأوطانهم أثرا صادقا من آثار الانفعالات "التي قرّت في النفوس فآلمتها، وحزّت في القلوب فألهبتها، فجرّت على الألسن أنّات وسالت بها الأقلام عبرات")  (. فكانوا أقدر الناس على رثاء الممالك الزائلة والأقطار الضائعة والدول الآفلة، و"ندب الملوك التي تنتزع عروشها وتخلع عن سلطانها لم يدركهم في ذلك سابق ولم يلحقهم فيها تابع")  (.
ومن هذا المنطلق ارتأيت أن أسجّل وقفات مع بعض أعلام الشعراء في تصويرهم للنكبات التي لحقت بمدنهم وما صاحبها من تشرّد وضياع وانتهاك للحرمات، حيث أعلنت حرب الاسترداد، واتّحدت كلمة الأعداء متّخذة شكلا رسميا لمفهوم الحرب الصليبيّة، التي تعتزم قطع دابر الإسلام والمسلمين في الأندلس. فبدأت الغارات، وكانوا كلما دخلوا مدينة إسلاميّة إما أن يتركوها صحراء جرداء قد محيت آثارها الإسلامية كما فعلوا "بطليطلة"، أو يسكنوا فيها رعاياهم النصارى ويشيّدوا الكنائس "كما فعلوا في قرطبة"، أو يأخذوا أهل هذه المدينة بالمعاملة القاسية التي تصل إلى حدّ الإحراق والقتل كما فعل السيد الكومبيطور مع "أهالي بلنسيّة") (.
وهكذا بدأت الحصون في شبه الجزيرة تتساقط في يد العدو "تساقط أوراق الخريف") (، فأصبح مصير الأندلس في خطر، والملوك منهمكون في مفاسدهم منشغلون بالكيد لبعضهم البعض.
في ظلّ هذه الظروف، ما موقف الشعراء خاصة ؟ لاسيّما وأنهم "أهل عاطفة رقيقة، ووجدان حيّ يؤثّر فيهم المصاب وتحزنهم النازلة")  ( كيف وهم يرون مدنا تسقط، ومعالم تمحى، وأهالي تطرد، ونساء تغتصب وبنات تسبى؟؟
مما لا شك فيه أن الشعر لسان حال الأمة، وقد حظي الشعراء في الأندلس بالمنزلة الرفيعة حتى عدّوا من الأرستقراطيّة الحاكمة، لذلك كلّما تعرضت الدولة إلى مصاب علت أصواتهم إمّا بالتحذير أو الاستغاثة أو الاستنفار لجهاد العدوّ، مرسلين أشعارهم من صدور مكلومة، وأفئدة موجعة، ونفوس باكية، وقلوب ملتاعة، "شفّها الحزن وصدّعها الهمّ واستولت عليها الحسرة وأصابها الأسى")  (. فاضطلعوا بذلك إلى "مهمّة المثقفين الشرفاء الذين يلقون على كواهلهم مسؤوليات تاريخيّة جسام)  ( من هنا أضحى رثاء المدن والدول فنّا شعريّا قائما بذاته في أدبهم")  ( ويكفينا في ذلك الأبيات الشعرية التي قالها أبو عبد الله محمد بن الفازازي، والتي تعتبر من أجود ما قيل في تصوير حال الأمة، وهي تنهار أمام العدو:
 الرُّومُ تَضْرِبُ ِفي البِلاَدِ وَتَغْنَمُ        وَالجُورُ يَأْخُذُ مَا بَقَى وَالمَغْرَمُ
 وَالمَالُ يـُورَدُ كُلُّهُ قِشْتَالَـةً         وَالجُنْدُ تَسْقُطُ وَالرَّعِيَّةُ تَسْلَمُ
 وَذَوُوا التَعَيُّنِ لَيْسَ فِيهِم مُسْلِمٌ       إِلاَّ مُعِينٌ ِفي الفَسَادِ مُسَلِّـمُ
 أَسَفِي عَلَى تِلْكَ البِلاَدِ وَأَهْلِهَا        اللهُ يَلطُفُ بِالجَمِيعِ وَيَرْحَمُ)  (

أولا: رثاء الدول
1- سقوط بربشتر:
تعتبر واقعة بربشتر سنة 456 هـ "أول حملة صليبية على الأندلس الإسلامية")  (، وذلك على إثر الحملات الصليبية المبكرة التي كانت تستهدف كبريات المدن الأندلسية. كما أنها "أوّل هزيمة تلقاها المسلمون بعد أن تمزقت وحدتهم في الأندلس")  (، لهذا كانت دافعا قويّا، ارتفعت معه أصوات الشعراء والكتّاب مصورين فداحة الخطب الذي ألمّ بالمسلمين، وهذا الفقيه الزاهد عبد الله بن فرج اليحصبي المكنّى بابن العسّال يصوّر مأساة بربشتر فيقول:
وَلَقَدْ رَمَانَا المُشْرِكُونَ بِأَسْهُمٍ      لمَ تُخْطِ لَكِنْ شَأْنُهَا الإِصْمَاءُ
هَتَكُوا ِبخَيْلِهِمُ قُصُورَ حَرِيمِهَا       لمَ يَبْقَ لاَ جَبَلٌ وَلاَ بَـطْحَاءُ
جَاسُوا خِلاَلَ دِيَارِهِم فَلَهُمْ بهَا     ِفي كُلِّ يَـوْمٍ غَارَة شَعْـوَاءُ
بَاتَتْ قُلُوبُ المُسْلِمِينَ بِرُعْبِهِمْ      فَحُمَاتُنَا ِفي حَرْبِهِم جُبَنَاءُ)  (
وفيها تصوير لقسوة الأعداء في حملتهم على بربشتر، وتكالبهم من أجل الفتك بالمسلمين الذين لم يحرّكوا ساكنا لنجدتها، فهم بذلك جبناء يخافون ملاقاة عدوّهم.
ثم ينتقل بنا إلى مشاهد أخرى ليبين من خلالها أن العدولم يكتف بتحقيق النصر أو القتل أو السبي، إنما تجاوز كلّ ذلك إلى ارتكاب جرائم أخلاقية يندى لها ضمير الإنسانية، كانتهاك الحرمات لذا حاول ابن العسّال مخاطبة الوازع الديني وإثارة حمية العربي الأصيل الذي يصون كرامته ويذوذ عنها، فأين الحميّة؟ وقد انتهكت أعراض النساء، ونكّل بالأطفال والشيوخ شرّ تنكيل رامين بالمبادئ والقيم عرض الحائط:
كَمْ مَوْضِعٍ غَنِمُوهُ لم يُرْحَمْ بِهِ       طِفْلٌ وَلاَ شَيْخٌ وَلاَ عَـذْرَاءُ
وَلَكَمْ رَضِيعٍ فَرَّقُوا مِنْ أُمِّـهِ        فَلَـهُ إِلَيْهَا ضَجَّـةٌ وَبُغَـاءُ
وَلَرُبَّ مَوْلُودٍ أَبُوهُ مُـجَدَّلٌ         فَوْقَ التُّرَابِ وَفَرْشُهُ البَيْـدَاءُ
وَمَصُونَةٍ ِفي خِدْرِهَا مَحْجُوبَةٍ        قَدْ أَبْرَزُوهَا مَالهَاَ اسْتِخْفَاءُ
وَعَزِيزَ قَوْمٍِ صَارَ ِفي أَيْدِيهِمْ          فَعَلَيْهِ بَعْدَ العزّة استخْذاءُ)  (
كما يصوّر ابن بسام هذه الفاجعة بقوله : "... عداة الله كانوا يومئذ يتولّعون بهتك حرم أسراهم وبناتهم بحضرتهم وعلى أعينهم إبلاغا في تعذيب قلوبهم يغشون الثيب، ويفتضون البكر، وزوج تلك وأبو هذه موثق بقيد أسراه ناظر إلى سحنة عينه، فعينه تدمع ونفسه تقطّع." )  (
بعدها يقرّ ابن العسّال أن ما أصاب المسلمين في هذه المحنة، ما هو إلا نتيجة طبيعية للفرقة والخلاف وتفاقم الذنوب، فهم يشربون الخمر مجاهرة، ويمارسون الرذيلة دون احتشام فحقّ عليهم العذاب:
   لَوْلاَ ذُنُـوبُ المُسْلِمِينَ وَأَنَّهُمْ     رَكِبُوا الكَبَائِرَ مَا لهَنَّ خَفَـاءُ
  مَا كَانَ يُنْصرُ لِلنَّصَارَى فَارِسٌ      أَبَدًا عَلَيْهِمْ فَالذُّنُوبُ الـدَّاءُ
  فَشِرَارُهُمْ لاَ يَخْتَفُونَ بِشَرِّهِمْ    وَصَلاَحُ مُنْتَحِلِي الصَّلاَحِ رِيَاءُ)  (
وكأنه يطلب من الحكّام والمحكومين على السواء التمسك بالدين، والرجّوع إلى القيم والأخلاق التي يعلو بها الإنسان، فيلقى نصر الله وتأييده. وفي المضمار نفسه يقرّ ابن عبد البرّ في رسالة له على لسان أهل بربشتر أن كثرة الذنوب حاجبة عن النصر: "... لولا فرط الذنوب لما كان لريحهم علينا من هبوب ..." ) (
ثمّ يضرب على نغمة الوحدة والائتلاف كدعوة صريحة منه إلى وجوبها: "... ولو كان شملنا منتظما، وشعبنا ملتئما، وكنا كالجوارح في الجسد تشابكا ...".
وإذا سلّمنا بوجهة نظر ابن العسال وابن عبد البر في اعتبار الذنوب إحدى الأسباب التي ألحقت بالمسلمين الهزيمة، فإنّه يجدر بي أن ألفت الانتباه إلى وجود عوامل سياسية، وأخرى اجتماعية كان لها الأثر البالغ في انهيار الكيان الإسلامي بالأندلس، وبالتالي ضعف المسلمين وانهزامهم أمام العدو النصراني.
وعلى إثر هذه الحادثة نجد من الشعراء من وجّه خطابه مباشرة إلى ملوك الأندلس يشعرهم بالخطر المحدق بهم. كالهوزني الذي خاطب المعتضد مرارا يحثّه على الجهاد منبّها إياه بخطورة الوضع:
أَعَبَّادُ حَلَّ الرَّزْءُ وَالقَوْمُ هُجَّـعُ     عَلَى حَـالَةٍ من  مثلُها  يُتَـوَقََّـعُ
فَلَقِّ كِتَاِبي مِنْ فَرَاغِكَ سَـاعَةً      وَإِنْ طاَلَ فَالمَوْصُوفُ للطُّولِ موضعُ)  (
وهكذا صورت لنا هذه الأشعار والمراسلات الأثر العميق الذي تركته نكبة بربشتر في أوساط المجتمع الأندلسي، ولعلّها أوّل محنة حركت المشاعر وللأسف لم تجد نصيرا.

-2       سقوط طليطلة:
تعتبر طليطلة من أوّل ما "استرّد الإفرنج من مدن الأندلس العظـيمة")  ( ، ولم يتمكن المسلمون من استرجاعها، لذلك عدّ ضياعها من أكبر المحن التي أنمّت عن ضعف ملوك الأندلس الذين لم يحرّكوا ساكنا وكبرى مدنهم تسقط وتضيع بلا رجعة.
لقد كان سقوط طليطلة نذيرا بما "يترصد المسلمين في الأندلس من أخطار")  (، وذلك لما تمثله المدينة من أبعاد سياسية وعسكرية. فقد تميّزت عن باقي مدن الأندلس بموقعها المتميّز حيث تقع في وسط الأندلس، فهي عاصمة الثغر الأوسط، وتقع "على قمة جبل مرتفع أعطاها حصانة طبيعية، ويحيط بها نهر "تاجة" وخلفها توجد قنطرة محصنة، ومن ثمة كان خبر سقوطها فاجعة على للشعراء") (. فنظمت في بكائها القصائد الرائعة، ورفعت أصوات الفقهاء تدعو ملوك الطوائف إلى الإتحاد والتعاون لمواجهة العدو المشترك. وعلى رأسهم نجد الفقيه أبا الوليد الباجي الذي حمل على عاتقه مسؤولية الطواف عليهم لجمع الكلمة ونبذ الفرقة إزاء الخطر الداهم الذي يهدّد الأندلس، مثيرا الحماسة في نفوسهم قصد التأهب للدفاع عن طليطلة، لكن هذه المبادرة كانت بمثابة صيحة في واد، إذ بادر الملوك إلى استرضاء النصارى تاركين طليطلة تلقى مصيرها المحتوم.
فهذا المعتمد بن عبّاد أقواهم لم يحرك ساكنا، ولم يسارع إلى نجدتها، بل ذهب بعضهم إلى أن سقوطها كان "باتّفاق بينه وبين المـلك النصـراني")  (. في حين بقي مشغولا بحربه مع عبد الله بن بلقين صاحب غرناطة. أما باقي ملوك الطوائف فلا همّ لهم إلا تحقيق مصالحهم وإشباع رغباتهم فغلبت الأطماع الشخصية على كل تفكير سليم ومبدأ حكيم ووصل بهم التخاذل إلى حدّ إرسال التهنئة لألفونسو على أخذه طليطلة، حتى أن ابن رزين حسام الدولة صاحب شنتمرية ذهب بنفسه لتهنئته يحمل إليه الهدايا النفيسة فجازاه بأن أعطاه قردا احتقارا له. وبهذا فقدت الحاضرة الإسلامية كلّ مصدر للعون الحقيقي، مما جعل الشعراء يعتقدون أنه بسقوط حاضرة بني ذي النون بدأت نهاية الأندلس، فسقوطها بعد أربعة قرون من الحكم الإسلامي جعل منها نقطة تحول كبرى في تاريخ شبه الجزيرة الأندلسية، إذ بعدها بدأت المدن الإسلامية تسقط تباعا مما جعل الأندلسيين يستشعرون عجز أنفسهم عن تحقيق خلاصهم من براثن العدو، "فبدأوا يولون وجوههم شطر إفريقيا آملين الخلاص على أيدي المرابطين الملثمين")  (.
فجاء شعرهم مصورا هذه الفاجعة، وما انجرّ عنها من محو لمعالم الدّين، ومحاربة للعقيدة الإسلامية، والشخصية العربية الأصيلة، وأشهر ما رثى به الشعراء طليطلة، قصيدة لابن العسّال جاء فيها:
  يَا أَهْلَ أَنْدَلُسِ حُثُّوا مَطِيَّكُـمُ       فَمَا الْـمُقَامُ ِبهَا إِلاَّ مِـنَ الغَلَـطِ
  الثَّوْبُ يَنْسَلُّ مِنْ أَطْرَافِهِ وَأَرَى      ثَوْبَ الجَزِيرَةِ مَنْـسُولاً مِنَ الوَسَطِ
  ونَحْنُ بَينَ عَـدُّوٍ لاَ يُفَارِقُـنَا     كيفَ الحَيَاةُ مَعَ الحَيَّاتِ في سَفَطِ)  (                        
والمتلقي لهذه الأبيات في أول وهلة يشعر بالروح الانهزاميّة لدى الشاعر "الذي يمثل بدوره شريحة اجتماعية"، فهو موقف سلبيّ، وكأنه لا يكترث لسقوط طليطلة، والحرم التي استبيحت فيها، حيث دعا الأندلسيين إلى حمل أمتعتهم قصد الفرار منها، طالبين الأمن والسلام في ما جاورها من مدن. وهذا الرأي ذهب إليه الكثير من النقاد وعلى رأسهم د/إحسان عبّاس)  (.
لكننا إذا ما تمعنّا في مضمون الأبيات نجدها صرخة حزينة مؤلمة تنم عن قلب مفجوع وحسّ وطنيّ راق. إن الشاعر على عكس ما ذهب إليه البعض في زعمهم من أنّه يدعو إلى الرحيل والتخلّي عن نجدة المدينة! بل إننا نلتمس تلك الروح النضالية التي تحمل في طياتها دعوة للقيام ومواجهة العدوّ، مجسّدا الأخطار المحدقة بالمسلمين إذا ضاعت طليطلة، فالاستسلام والخضوع للعدو هو الغلط بعينه.
ومما قيل في رثاء طليطلة ما أورده المقريّ على لسان شاعر مجهول في قصيدة منها :
لِثُكْلِكَ كَيْفَ تَبْتَـسِمُ الثُّغُورُ       سَرورًا بَعدمَا بَئِسَتْ ثُغُـورُ
أَمَا وَأَبى مُصَابٌ هُدَّ مِـنـْهُ       ثَبِيرُ الدِّينِ، فَاتصل الثُّبُـورُ
لَقَدْ قُصِمَتْ ظُهُورٌ حِينَ قَالُوا       أمير الكَافِرِيـنَ لَهُ ظُهُـورُ
طُلَيْطِلَةٌ أَبَاحَ الكُفْر مِنْـهَـا        حِمَاهَا إِنْ ذَا نَبَـأٌ كَبِيـرُ
فَلَيْسَ مِثَالهَاَ إيوانُ كِـسْرَى        وَلاَ مِنْهَا الخَوَرْنَقُ وَالسَّدِيرُ)  (
والقصيدة حافلة بالمعاني، مليئة بالتحريض على الجهاد، وهي لا تختلف في مضمونها على معهود رثاء الممالك من ألم وتفجّع، وتذكير بالماضي التليد، معارضا أصحاب النفوس الضعيفة الذين ارتضوا بالذلّ بقوله:
  كَفَى حُزْنًا بِأَنَّ النَّاسَ  قَالُوا        إِلَى أَيْنَ التَحَوُّلُ وَالمَسِيـرُ
  أَنَـتْرُكُ دُورَنَا وَنَفرُّ عَنْـهَا        وَلَيْسَ لَنَا وَرَاءَ البَحْـرِ دُورُ
 وَلاَ ثَمِّ الضِيـَاعُ تَرُوقُ حُسْنًا        نُبَاكِرُهَا فَيُعْجِبُنَا البُكـُورُ)  (
وكأنّه يعلنها ثورة عارمة على أهلها الذين فضّلوا البقاء تحت الاسترقاق وينعي" ذلّ حكام الأندلس بمداراتهم واصطناعهم للنصارى، وذلّ النّاس الذين يرضون الدنيّة بالخضوع والخنوع للحكم النصراني")  (.
والشاعر الفقيه كغيره من فقهاء عصره الذين يرون أن سقوط المدينة كان نتيجة طبيعيّة لاقتراف الذنوب والابتعاد عن المنهاج السليم وفيها دعوة كتلك التي دعا إليها ابن العسّال من ضرورة التمسك بالأخلاق والتزام السلوك الإسلامي حتى يتمكن المسلمون من عدوّهم؛ يقول:
أَنَأْمَنُ أَن يُحلّ بنَـا انتقامٌ      وَفينَا الفـُسق أَجْمَعُ وَالفُجُـورُ
وَأَكْلٌ لِلْحَرَامِ وَلاَ اضْطِرَارٌ      إليـه فَيَسْهُـلُ الأَمْرُ العَسِيـرُ
وَلكِنْ جُرْأَة ِفي عُقْـر دَارٍ      كَذَلك يَفْعَل الكَلْـبُ العَقُـورُ
يَزُولُ السِّتْرُ عَنْ قَوْمٍ إِذَا مَا      عَلَى العِصْيَانِ أُرْخِيَتْ السُّتُورُ)  (
ثم توجه الشاعر إلى ذكر معالم الدّين التي طمست، وحرمات المساجد التي انتهكت، فتحولت دار الإيمان إلى دار كفر، "وتنكرّ النصارى لعهودهم التي قطعوها على أنفسهم في الإبقاء والمحافظة على مقدسات المسلمين")  (، وهكذا استبدل بصوت الآذان أجراس الكنائس، إنها "مأساة الدّين الذي أصبح غريبا في هذه الدار")  (؛ يقول:
   وَكَانت دَارَ إيمَانٍ وَعلـمٍ      مَعَالِمُـهَا التيِّ طُمِست تُنِيـرُ
   فَعَادَت دارَ كُفْرٍ مُصْطَـفَاةٍ    قدِ اضْـطَرَبت بأهليها الأمورُ
   مَسَاجدُهَا كنائسُ، أيّ قلبٍ    علَى هـذا يَـقَرُّ ولاَ يَطِيـرُ
  مَضَى الإسلام فَابْكِ دَمَا عليه   فما يَْنفِي الجَوَى الدَّمْعُ الغَزِيرُ)  (
فظاهرة تحويل المساجد إلى كنائس إنما هي كما ذكر عبد العزيز سالم تكشف عن الاسترداد القومي الإسباني للمدن الأندلسية، إذ كانت "العادة تجري وقتئذ على أن يكون المسجد قائما على أنقاض الكنائس الكبرى")  (. والفاجعة في سقوط طليطلة كانت أدهى وأمرّ، فعوض أن يستجيب ملوك الطوائف لنداء الجهاد بادروا باسترضاء ألفونسو السادس بدفع الجزية له، "وإرسال الهدايا المختلفة تقربا إليه")  (، وعوض أن يثور السكان، فقد رضوا بالخضوع للنصارى، بل منهم "من ترك دينه واعتنق النصرانية")  (. إذ يذكر ابن سعيد أن الشاعر أبا القاسم بن الخياط: أقام خمسين سنة على العفاف والخير لا تعرف له زلّة فلما أخذ النصارى طليطلة اعتنق النصرانية، فقال له أحد أصحابه أين عقلك؟ قال: ما فعلت هذا إلاّ بعد ما كمل عقلي، ثم أصبح بعد ذلك كاتبا لألفونسو السادس، وعنه كتب إلى المعتمد بن عباد رسالة تهديد، وفي ذلك يقول مبرّرا تنصره:
تَلَوَّن كالحِرْبَاءِ حِينَ تلـوَّنُ       وَأَبْصَر دُنْيَاه بمِلْءِ جُفُونِـهِ
وَكلّ إلى الرَّحْمَن يُومِي بِوَجْهِهِ    وَيَذْكُرْهُ ِفي جَهْرِهِ وَيَقِينِـهِ
وَلَوْ أَنَّ دِينًا كَانَ نَفْيًا لِخَالِقِي     لمَاَ كُنْتُ يَوْمًا داخلا في فنونه ) )
إلاّ أن هناك من ينفي تنصّره مقرّين أنه أصبح كاتبا للملك، وأنه شدّ الزنار على وسطه لا غير.
وفي ظاهرة التنصير يقول ابن جبير: "... ومن أعظم ما مني به أهل هذه الجزيرة، أن الرجل ربما غضب على ابنه أو على زوجته، أو تغضب المرأة على ابنتها، فتلحق عليه أنفة تؤدي إلى التطارح في الكنيسة فيتنصّر ويتعمّد، ولا يجد الأب للابن سبيلا، ولا الأم للبنت سبيلا، فتخيّل حال من يمنى بمثل هذا في أهله وولده ويقطع عمره متوقعا لوقوع هذه الفتنة منهم." )  (

3-سقوط بلنسية:
لم يكن النصارى ليتوانوا عن هدفهم في استرداد البلاد والحصون تحت غطاء الحرب الصليبية التي أشعلت نيرانها برعاية الكنيسة وزعمائها الذين أذكوا روح جنودهم النضالية بمنحهم صكوك الغفران في سبيل الوطن، ولم تكن بلنسية بمعزل عن تلك الأحداث، لاسيما وأن النزاع بين الملوك على أوجه. فكانت الفرصة سانحة أمام "السيد الكومبيطور وهو أحد المغامرين القشتاليين")  ( الذي ما فتئ يشعل نار الفتنة بينهم، فقد تمكن من انتزاع بلنسية  لنفسه عندما تيقن من ضعف أميرها عبد القادر بن ذي النون، وأوهمه بأنه الوحيد القادر على حمايته، فأصبحت مقاليد الدولة كلها في يده، فقتل وسفك الدماء، وظلم و"استطاع في ظرف وجيز أن يجبر كامل منطقة الشرق على أن تدفع له جزية سنويّة كبيرة")  (.
هذه الأوضاع لم تكن لتنال رضى الصالحين، فكانت ثورة تزعمها ابن جحاف قاضي بلنسية مستدعيا المرابطين لتسليمهم المدينة.
يقول أحد شعرائهم متفائلا :
قُولُوا للذريقَ أِنَّ الحَقَّ قد ظَهَرَا      أَوفقَدُوهُ إذا مَا طَيْـرَه زَجَرَا
سُيُوف صَنْهَاجَةٍ في كلِّ مُعْتَرَكٍ    تأتي لأطْيَارِهِ أَنْ تَصْدُقَ الخبَرَا)  (
فلم يسع السيد الكومبيطور إلاّ أن شدّد الحصار، وألحق بسكانها أذى كبيرا وفقرا رهيبا، حتى "عدم النّاس الطعام وأكلوا الفئران والكلاب والجيف")  ( فعدمت "الأقوات بالجملة وهلك الناس ولم يبق من ذلك الجمّ إلا نزر قليل، وتوالى اليبس واستحكم الوباء، وبينما الرجل يمشي يسقط ميتا")  (.
وبدخول الناس بلنسية سنة 488 هـ قامت قريحة الشاعر ابن خفاجة ليعلن مأساة سقوطها، وما حلّ بها من رزء، ومحو لمعالم الدّين:
 عَاثَتْ بِسَاحَتِكِ العِدَا يَا دَارُ        وَمَحَا مَحَاسِنَك البِلَى وَالنَّـارُ
 وَإذَا تَرَدَّدَ ِفي جَنَابِكَ نَاظِـرٌ       طاَلَ اعْتِـبارٌ فِيكَ واسْتِـعْبَارُ
 أَرْضٌ تَقَاذَفَتْ الخُطُوبُ بأَهْلِهَا      وَتَمَخَّضَـتْ بخَرَابهَا الأَقْـدَارُ
 كَتَبَتْ يَدَ الحَدَثَانِ ِفي عَرَصَاِتهَا      لاَ أَنْتِ أَنْتِ وَلاَ الدِّيَارُ دِيَارُ)  (

وابن خفاجة في هذه الأبيات يبدو لنا كما صوّره الربعي بن سلامة أقرب إلى التأمل منه إلى البكاء والتفجّع)  (.
وممن تأثّر بحال بلنسية أحد وجوهها، أبو عبد الرحمن بن طاهر الذي عايش محنة ابن جحاف، وكان من أسراها سنة 488 هـ، وكتب إلى بعض أصحابه يصف حالها: "... فلو رأيت قطر بلنسية نظر الله إليه، وعاد بنوره عليه، وما صنع الزمان به وبأهليه، لكنت تندبه وتبكيه، فلقد عبث البلى برسومه، وعدا على أقماره ونجومه، فلا تسأل عمّا في نفسي وعن نكدي ويأسي ..." )  (.
وفي معاناة الحصار وقف الوقشي أمام أسوار المدينة، وألقى مرثيته التي بكى فيها مصاب بلنسية، مصورا معاناتها، قائلا:
     ".. بلنسية! ..بلنسية، مصائب كبيرة تحدق بك، وأنت تحتضرين، وإذا قدّر لك النجاة، فسيراه عجيبا من يعيش ويراك ... وإذا أراد الله خيرا لهذا البلد... فأملي كبير أن يتولاك برحمته، فلقد كنت دوما موطن الجمال والسرمد حيث يعيش المسلمون جميعا في بهجة ومتعة" )  (.
ومما كان يردّده البلنسيون قوله:
        إِذَا أَنَا مَضَيْتُ يَمِينَا       هَلَكْتُ بمَاءِ الفَيَضَانِ
       إِذَا ذَهَبْتُ يَسَـارَا        أَكَلَنــِي السَّبُـُع
       إِذَا مَضَيْتُ أَمَامِـي       غَرَقْــتُ ِفي البَحْرِ
       إِذَا مَا التَفَتُّ وَرَائِي       أَحْرَقَتْنِي النَّـار)  (
 وتمرّ سنوات سبع على بلنسية وهي تعاني أواصر المحنة فيستردّها المسلمون بعد ذلك في ظلّ المرابطين الذين استبسلوا في إنقاذها، فعمّت البشرى حيث أنشد ابن خفاجة قوله:
   الآنَ سَـحَّ غَمَامُ النَّصْرِ فَانهَمَلاَ     وَقَامَ صَغْـوُ عَمُودِ الدِّيـنِ فاعْتَدَلاَ
  ولاَحَ للسَّعْدِ نجمٌ قَدْ خَوَى فَهَوَى   وَكَرَّ للنَّصْرِ عَصْرٌ قَدْ مَضَى فَخَلاَ)  (
ونحن نستعرض رثاء المدن الساقطة في يد النصارى، تجدر بنا الإشارة إلى ظاهرة مهمّة تميّز بها الشعراء الأندلسيون ألا وهي رثاء الممالك، فقد حظيت دولتا المعتمد وبني الأفطس باهتمام كبير، ونالتا نصيبهما من الشعر في بكاء الدولتين، وذكر مفاخرهما وأمجادهما، فلم يقتصر الشعراء خلالها على التعبير عن مشاعر الذّات بل تعدّوا ذلك إلى "رصد عواطف الجماعة، والتعبير عن ظاهرة الحزن الشامل من خلال النكبات التي كانت تجتاح جموع النّاس في تلك العصور الجائشة")  (.


ثانيا:رثاء الممالك
1- رثاء دولة بني عبّاد:
كان لسقوط إشبيلية في يد المرابطين أثره البارز في تحريك مشاعر الشعراء وأقلامهم. فبكوا العزيز الزائل والمجد الرّاحل، لاسيما وهم يرون نجم المعتمد بن عبّاد في أفول. فكانت مأساة سقوطه ونفيه إلى أغمات أعظم أثرا في نفوسهم حتى أضحت قصّة "العزيز الذي ذلّ") ( ملهبة لعواطف المخلصين، فجاء شعرهم من أنبل ما قيل في الرثاء. وهي كما قال سلطاني "أنّات وحسرات ونفثات وزفرات") (. ولعلها أوضح في شعر ابن اللبانة "أحد شعراء المعتمد"، الذي أثنى عليه ابن خاقان بقوله: "...وكان المعتمد يميزه بالتفوق والإحسان، ويجوزه في فرسان هذا الشأن..." )  (وقد أفاض ابن اللبانة في أشعاره بتصوير تلك الفاجعة، فجاءت داليته الشهيرة عاكسة نبل عواطفه، مصوّرة آلامه واهتزازه لهول الفاجعة، وهو يرى المعتمد وأهله أسرى يركبون السفينة في صمت وكأنها القبر والناس حوله بقلوب قرحى وأفئدة مكلومة. حتى الطبيعة شاركتهم الحسرة، فالأرض جفّت والكون أظلم والنجوم أفلت؛ يقول:
   تَبْكِي السَّمَاءُ بمُزْنِ رَاِئحٍ غَـادٍ      عَلَى البَهَالِيـلِ مِنْ أَبْنَـاءِ عَبَّـادِ
   عَلَى الجِبَالِ التيِّ هُدَّتْ قَوَاعِدُهَا     وَكَانَـتِ الأَرْضُ مِنْهُمْ ذَاتَ أَوْتَادِ
  يَا ضيفُ أَقْفَر بَيتُ المَكْرُمَاتِ فَخُذْ    ِفي ضَـمّ رَحْلِكَ وَاجمْعَ فُضْلَةَ الزَّادِ
    ويَا مُؤَمِّلَ وَادِيهِمْ ليـسْكُنـَهُ        خَفَّ القَطِينِ وَجَفَّ الزَرْعُ بالوَادِي
   نَسَيتُ إِلاَّ غَدَاةَ النهر كَوْنَهـمُ        في الـمنشآتِ كأمواتٍ بألحــاد
  حَانَ الوَدَاعُ فَضَجَّتْ كُلَّ صَارِخَةٍ     وَصَارِخٍ مِنْ مُفدَّاةٍ وَمِنْ فَــادِي
  سَارَت سَفَائِنُهُم وَالنَوْحُ يَتْبَعُهَا        كَأَنَّهَا إِبـْـلٌ يحدُو بهَـا الحَـادِي
  كَمْ سَالَ في الماءِ من دَمْعٍ وَكَمْ       حمَلَتْ تِلكَ القَطَائِعُ من قَطْعَاتِ أَكْبَادِ
  مَنْ لي بِكُمْ يا بَني مَاءِ السَّماءِ إذا    مَاءُ  السَّماءِ أَبى سُقْيَا حتى الصَّادِي)  (
والملاحظ أن المراثي التي قيلت في زوال دولة بني عبّاد كلّها كانت موجّهة لشخص المعتمد ولا غرو في ذلك، إذ هو عبرة لتقلب الدهر، يسوم بعد العزّ ذلا، وبعد الملك خضوعا وهوانا. ومنها ما جاد به أبو بحر بن عبد الصمد، وهو واقف على قبر المعتمد في أغمات:
مَلكَ المُلُوكِ أَسَاِمعٌ فَأُنـَادِي        أَمْ قَدْ عَدَتْكَ عَنِ السَّمَاعِ عَوَاد
لمَّا خَلَتْ مِنْكَ القُصُورُ وَلم تَكُن     فيها كَمَا قَدْ كُنْتَ في الأَعْيَادِ
قَبَّلت في هَذَا الثَرَى لَكَ خَاضِعًا     وَتَخِذْتُ قَبْرَكَ مَوْضِعَ الإِنْشَادِ
ياَ أَيُّـهَا القَمَرُ المُنِيرُ أَهَكَـذَا       يمُحَى ضِيـَاء النّـيِّرِ الوَقَـادِ
أَفَقَدْتُ عَيْنِي مُذْ فَقَدْتُ إِنَارَةً       لِحِجَـابِهَا ِفي ظُلْمَةٍ وَسَـوَادِ
ماَ كُنْتُ أَحْسَبُ قَبْلَ مَوْتِكَ أَنْ أَرَى   قَبْرًا يَضُمُّ شَوَامِخَ الأَطْوَادِ)  (
وإلى جانب ابن اللبانة وابن عبد الصمد نجد ابن حمديس، وأبا الوليد ابن طريف، وأبا محمد عبد الله بن إبراهيم الحجاري وغيرهم كثير من الشعراء الأوفياء لدولة المعتمد. فالمراثي التي قيلت في دولة بني عباد  تفوق بكثير ما قيل في مدن أخرى.

2- رثاء دولة بني الأفطس:
لم تكن بطليوس أحسن حظا من إشبيلية فقد عمد المرابطون إلى خلع ملوك الطوائف بعد ما تبين لهم ضعفهم وموالاتهم للعدو قاصدين من وراء ذلك توحيد الدولة الإسلاميّة تحت قيادة مرابطية.
فعقب سقوط دولة بني الأفطس ظهرت مرثيّة ابن عبدون مليئة بالأسى والحسرة والتفجّع، وقد أثنى عليها المراكشي بقوله: " قصيدته الغرّاء، بل عقيلته العذراء، التي أزرت على الشعر وزادت على السحر وفعلت بالألباب فعل الخمر." )  (
وقد حشد فيها ابن عبدون "الكثير من أحداث تاريخ العجم والعرب وما مرّ بالدول والملوك من تقلبات الدّهر، وذلك قصد العظة والتأسّي ثم انتقل إلى تعداد مناقب قتلى بني الأفطس من مثل الإباء، والوفاء، والشجاعة، والفروسيّة، والأدب، والتديّن")  (؛ جاء فيها:
      الدَّهْرُ يَفْجَعُ بَعْدَ العينِ بِالأَثَـرِ      فَمَا البُكَاءُ عَلَى الأَشْبَاحِ وَالصُورِ
      أَنْهَاكَ أَنْهَاكَ لاَ آلُوكَ مَوْعِـظَةً      عَنْ نَوْمَةٍ بَينَ نابِ اللَّيْثِ وَالظُّفْرِ
       فَلاَ يَغُرَّنَكَ مِنْ دُنْيَاكَ نَوْمَتُـهَا     فَمَا صِنَاعَـة عينيها سِوَى السَّهَر
     َتسُرُّ بِالشَّيءِ لَكِنْ كَيْ تُغَرَّ بِـهِ     كَالأَيّمِ ثَارَ إِلَى الـجَاِني مِنَ الزَّهَرِ
    وَالدَّهْرُ حَرْب وَإِنْ أَبْدَى مُسَالمةً   وَالسُّودُ وَالبِيضُ مِثْلُ البِيضِ وَالسُّمُرِ)  (
وابن عبدون في هذه الأبيات يدعونا للالتفات إلى الماضي والاستفادة من دروسه، وأخذ العبرة منه، حيث يضرب الأمثال بالأكاسرة، وبني ساسان، وبالقبائل السائدة كطسم، وعاد، وجرهم، وغيرهم ممّن علا شأنهم ثم أصبح مصيرهم إلى زوال ثم يعرّج إلى شهداء الإسلام كحمزة بن عبد المطّلب، وعمر، وعثمان، وعليّ:
 وَمَزَّقَتْ جَعْفَرَا بِالبيضِ وَاخْتَلَسَتْ     مِنْ غِيلَة حمَزَةَ الظَّلاَّمِ للجُـزُرِ
وَخَضَّبَتْ شَيْبَ عُثْمَانَ دَمًا وَخَطَتْ  إِلىَ الزُّبَيرِ وَلم تَسْتَحْيِ مِنْ عُمَـرِ
ثم يخلص إلى بني المظفر راثيا، متوجعا لمصابهم:
بَني المظْفَّـرِ وَالأَيّـَام لاَ نَزَلَتْ     مَرَاحلٌ وَالوَرَى مِنْهَا عَلىَ سَفَر
       سُحْقًا لِيَوْمِكُمُ يَوْمًا وَلاَ حمَلَتْ     ِبمِثْلِهِ لـيلةٌ ِفي غـَابِر العُمْـرِ
       مَنْ لِلأَسِرَّةِ أَوْ مَنْ لِلأَعِنَّـةِ أَوْ    مَنْ لِلأَسِنَّةِ يَهْدِيهَـا إِلى الثَّغْـِر
      مَنْ لِلظُّبَي وَعَوَاِلي الحَظِّ قَدْ عُقِدَتْ    أَطْرَافُ أَلْسُنِهَا بِالعِيِّ والحَصَـرِ
      مَنْ لليَراعـَةِ أَوْ مَنْ للبَرَاعَـة        أَوْمَنْ للسَّمَاحَةِ أَوْ للنَفْعِ والضَرَرِ
   
       أَوْ دَفْعِ كَارِثَـةٍ أَوْ رَدْعِ  آِزفَةٍ    أَوْ قَمْعِ حَادِثَةٍ تَعْيَا عَلىَ القَـدَر)  (
وفيها إشارة إلى المثل العليا التي اتّصف بها بنو المظفر، ففيهم الوفاء، والوقار، والإباء، والشجاعة.
وخلاصة القول أنه إذا عدنا إلى مراثي الأندلسيين بالدراسة والتّصفّح وجدناها تركّز على أسباب الهزيمة، والمتمثلة في نظرهم في المعاصي والذنوب الكثيرة التي تحجب نصر الله، فتلحق بهم الخراب.
كما ركّزوا على التحول الكبير الذي حدث للمقدسات والمعالم الإسلاميّة، إذ أنّه بمجرّد سقوط المدن تتحول مساجدها إلى كنائس والمنابر والمحاريب إلى أماكن القساوسة، ويتحوّل صوت الآذان إلى قرع النواقيس.
لقد صوّروا ما لحق بالمسلمين من هتك للمحرّمات، وسبي للنساء، وظلم للشيوخ والأطفال، فتحوّلت عدالة الإسلام وسماحته إلى جور النصارى وظلمهم، كل ذلك جعلهم يجودون بالعبارة والمشاعر الفيّاضة لتصوير تلك المآسي مستنهضين الهمم، داعين إلى الجهاد بنفسية مشحونة بالغضب لحمى الإسلام ولأجل التخلص من نير الغاصب بالعودة إلى الدين الحنيف والتّمسّك بمبادئه والتوحّد لأجل نصرته.
وهكذا يمكننا أن نعد رثاء الدول والممالك سمة من سمات الأصالة في الشعر الأندلسي، ففيه دعوة إلى التوحّد ونبذ الفرقة، وفيه دعوة للاستماتة في سبيل الوطن، وفيه تذكير بالأخلاق الفاضلة، وتمسّك بالشريعة السمحاء ... إذ بها تحقق القوة التي يمكّن بها للدولة في الأندلس.




0 commentaires:

إرسال تعليق