هو أبو المطرف أحمد بن عبد الله بن الحسين بن عميرة المخزومي، أصله من جزيرة شقر من أعمال بلنسية ولد بها سنة 582هـ ولا نكاد نعرف من حياة مترجمنا سوى أنه تتلمذ أولا في مسقط رأسه بلدة شقر على يد والده الذي كان من أعيان البلد وأهل العلم ، ثمّ أخذ عن جماعة من المشايخ من أمثال: أبي الحسن أحمد بن واجب القيسي أبي عمر أحمد بن عات الشاطبي "وأبي بكر عزيز بن خطاب الذي كان له الأثر الكبير في توجيه عقليته من العناية بالحديث والنظر في العلوم العقلية كالمنطق والفلسفة وعلم الكلام وأصول الفقه والطب" .
كما يبين لنا ابن عبد الملك المناحي الثلاثة في الحياة العلمية لأبي المطرف، إذ أنه بدأ أولا بالحديث وروايته ثمّ النظر في العقليات وختمها ببروزه في الأدب وبراعته فيه حيث قال: "إنه كان أول طلبه العلم شديد العناية بشأن الرواية فأكثر من سماع الحديث وأخذه عن مشايخ أهله ثمّ تفنن في العلوم ونظر في أصول الفقه ومال إلى الأداب فبرع فيها براعة عدّ بها من كبراء مجيدي النظم" .
وتذكر المصادر أن لشيخه أبي الربيع الكلاعي الفضل الأكبر في بلوغ ما بلغه من بسطة في العلم وتبحر في الأدب .
ثمّ انتقل أبو المطرف إلى بلنسية وشاطبة ودانية ومرسية وغيرها لطلب العلم ومجالسة العلماء. وبعد أن شبّ واكتمل نضجه الفكري رجع إلى بلنسية قصد الاستقرار.
والجدير بالذكر أن ابن عميرة نشأ في زمن كانت فيه الدولة الموحدية في أوج عظمتها، وقد وطد حكمها في جميع نواحي الأندلس وكانت أيام الناصر وابنه المنصور أعيادا ومواسم يقول في ذلك المراكشي:" ولم تزل أيام أبي يعقوب هذا أعيادا وأعراسا ومواسم كثرة خصب وانتشار أمن ودرور أرزاق واتساع معايش لم ير أهل المغرب أياما قط مثلها" .
فتشوق لخدمة الأمراء ومداخلتهم حتى وصفه ابن عبد الملك أنه شديد التطارح على خدمة الرؤساء ، وهذا ما جعل حياته تتسم بالتقلب والاضطراب فهو حينا في الأندلس ثمّ رحل إلى المغرب وأخيرا استقر بإفريقيا متقلدا منصب الكتابة تارة ومنصب القضاء تارة أخرى.
ففي الأندلس تقلد منصبي الكتابة والقضاء في دار الإمارة مدة ثلاثين سنة (607هـ/637هـ).
كتب عن أمراء الموحدين وسادتهم في إشبيلية وبلنسية ومرسية، منهم السيد أبي عبد الله بن أبي حفص وعن خلفه الأمير زيان بن مردنيش، ثمّ عن القائمين بدعوتهم من بني هود وبين حطاب، بعدما شغل منصب القضاء في مرسية وشاطبة وأريولة .
وفي سنة 637هـ انتقل ابن عميرة إلى المغرب ويقول في ذلك ابن سعيد أنه كان له بها (بر العدوة) تميز وحظوة، ولا يزال ناجح المصادر والموارد ، فاستكتبه الخليفة الرشيد الموحدي بمراكش مدة يسيرة ثمّ صرفه عن الكتابة وولاه قضاء هيلانة ثمّ سلا.
ولما توفي الخليفة الرشيد سنة 640هـ أقره المرتضى على عمله ونقله من قضاء سلا ورباطها إلى قضاء مدينة مكناسة .
فبينما هو كذلك دخلت الدولة الموحدية عصرها الأخير، حيث كثرت الفتن وكثر الخارجون عن الحكم الموحدي من متنازعين وثائرين، وكان ابن عميرة من بين المشاركين في الثورة ضدهم حينما فقد الأمل فيهم، وفكر في أحقية الحفصيين في تونس بالملك منهم وأصبح يتطلع إلى آفاقهم في إفريقيا ، وبدأها بأول خطوة والتي تمثلت في كتابة بيعة باسم سكان مكناسة إلى أبي زكريا حاول من خلالها التقرب من الحفصيين بفصل مكناسة عن الحكم الموحدي وجعلها تابعة لهم.
إلا أن هذه الفتنة لم تدم فقد استرجع الموحدون مكناسة وأخضعوها لحكمهم فوجد ابن عميرة نفسه مضطرا لمغادرة المغرب والالتحاق بالحفصية، فتم له ذلك بعد وفاة المرتضى مباشرة، حيث خرج منها راكبا البحر متوجها نحو إفريقيا، فقدم بجاية واستوطن فيها مدة طويلة قرأ بها ودرس وكان له بها إنتاج غزي في النظم والنثر.
ثمّ توجه إلى تونس فمال أولا إلى صحبة الصالحين والزهاد برهة ، وبعدها جنح إلى خدمة الملوك، فنجحت بها وسائله، كما قال ابن الخطيب ، فتولى قضاء قابس والأريس ولبث على هذه الحال إلى أن استدعاه الخليفة إلى حضرته وشاركه مجالس أنسه وداخله مداخلة شديدة حتى تغلب على أكثر أمره .
ونعم في كنفه بالحياة السعيدة، إذ يعبر عن ذلك ابن سعيد بقوله: "والسعادة تلحظه بطرق عنايتها إلى أن صار من المشرفين في مجلس الخلافة المستنصرية، وحل من المكارم والإمكان بالدرجة العلية" ، وظل كذلك حتى وافته المنية سنة ست وخمسين وستمائة 656هـ.
ومن كل ما تقدمه لنا المصادر يمكن القول أن حياة ابن عميرة تميزت بالتقلب وعدم الاستقرار، تقلد خلالها مناصب مختلفة وفي مدن عديدة من الأندلس والمغرب وإفريقيا وشغل مناصب سياسية مهمة، وما رسائله الديوانية إلاّ صورة عن السياسة المنتهجة في كل بلد حل به، وهي تطلعنا على جوانب مهمة من الصراع والتنافس على الحكم بين رؤساء الأندلس والعلاقات الداخلية فيما بينهم وعلاقتهم الخارجية مع جيرانهم المسيحيين أو مع الدول الإسلامية .
ويشهد المؤرخون أنه أوحد عصره، قال عنه المقري:" فأما الكتابة فهو فارسها الذي لا يجارى وصاحب عينها الذي لا يباري" وقال عنه ابن السيعد:" أنه شيخ كتاب زماننا، وإمام أدباء أواننا" ، وقال أيضا:" هو الآن عظيم الأندلس في الكتابة" ، أما ابن عبد الملك فقد خصه بقوله:" أما الكتابة فهو علمها المشهور وواحدها الذي عجزت عن ثانيه الدهور" ، كما أثنى عليه محمد ابن مخلوف بقوله:" قدوة الفقهاء وعمدة العلماء النبهاء المتفنن في العلوم الحامل لواء المنثور والمنظوم" ، بينما قال عنه الغبريني "أنه أعلم العلماء وتاج الأدباء" .
من نثره الديواني، مرسوم أصدره الخليفة الموحدي الرشيد بإسكان المهاجرين المسلمين الذين لجأوا إلى مراكش وبقية مدن الأندلس بعد سقوط بلنسية وشقر وشاطبة بيد الإسبان بشعبان سنة637هـ، مما جاء فيه:"… للمتنقلين من أهل بلنسية وجزيرة شقر وشاطبة ومن جرى من سائر بلاد الشرق مجراهم، وعراه من عبر الأيام ما عراهم.. ويلتمس لهم مكانا للقرار ومنزلا لإلقاء عصا التسيار، وعند ذلك أذن لهم أعلى الله إذنه وجدد مجده ويمنه في النقلة إلى رباط الفتح.. وأن يتخذوا مساكنه وأرضه بدلا من مساكنهم وأرضهم بدلا من مساكنهم وأرضهم ويعمروا فيه بدلا يقيل منهم أولي من قبل.." . وهذه الوثيقة ذات أهمية بالغة في كونها تلقي ضوءا كبيرا على مصير من شردتهم محنة الانهيار من أهل الأندلس وما كانوا يلاقونه من ضروب العطف والترحاب في العدوة المغربية.
وله أيضا، رسالة من أبي جميل زيان إلى ملك قشتالة في مراودة الصلح جاء فيها: "… ورأينا أن نحفظ من الأسباب المرعية على التفصيل والجملة حديثه وقديمه، وحين ترجحت مخاطبتكم من هذا المكان ومفاوضتكم في هذا الشأن، رأينا من تكملة المبرة وتوفيقه العناية التبرة أن ننفذ إليكم من يشافهكم في هذا المعنى، ويذكر من قصدنا ما نولع به ونعني…" .
وله أيضا، بيعة أخذها على أهل شاطبة من الأندلس لأبي جعفر المستنصر بالله العباسي، قام بعقدها أبو عبد الله محمد بن يوسف بن هود، صاحب الأندلس، ثمّ أخذ البيعة بعد ذلك عليهم لنفسه وأن يكون ابنه ولي عهده بعده جاء فيها:" لما دعا الناس بالمملكة الفلانية حماها الله إلى حجتهم القوية… وجعل التوكل على الله سبحانه وشريعة منيعة وذريعة معينة وتقدم- أيده الله- بأخذ البيعة على نفسه وعلى أهل الملة قاطبة للقائم بأمر الله.. فلم يروا رأيا أشد ولا عملا أحصن وأنشد من أن يطلبوه بعقد البيعة لابنه الواثق بالله المعتصم به أبي بكر محمد بن مجاهد…" .
لم يكن ابن عميرة مترسلا فقط بل كان شاعرا أيضا وكان كثيرا ما يفتتح رسائله بأبيات شعرية يشوق لها السامع حتى أصبح تضمين الشعر ميزة لا تكاد تخلو منها رسائله.
قال في رثاء بلنسية:
ما بال دمعك لا يني مدراره أم ما لقلبك لا يقر قراره
اللوعة بين الضلوع لظاعـن سارت ركائبه وشطّت داره
أم للشّباب تقاذفت أوطـانـه بعد الدنوّ وأخفقت أوطـاره
أم للزّمان أتى بخطب فـادح من مثل حادثة خلت أعصاره
ومن شعره البليغ ما صدّر به رسالة أجاب فيها صديقه أبا جعفر بن أمية حين بلغه خبر إستيلاء النصارى على بلنسية:
ألا أيها القلب المصرّح بالوجد أما لك من بادي الصبابة من بدّ
وهل من سلو يرتجى لمتيّـم له لوعة الصّادي وروعة ذي الصدّ
يحنّ إلى نجد وهيهات حرمت صروف اللّيالي أن يعود إلى نـجد.
فيا جيل الريّان لا ريّ بعدمـا عدت غير الأيام عن ذلك الورد
من مؤلفاته كتاب "التنبيهات على ما في التبيان من التمويهات" رد به على عبد الواحد بن عبد الكريم الزملكاني في الكتاب الذي ألفه في إعجاز القرآن وسماه "كتاب التبيان في علم البيان المطلع على إعجاز القرآن" وله تأليف في كائنة ميورقة التي استولى عليها خايمي ملك أرغون سنة 627هـ نحا فيها منحى محمد الأصفهاني في كتابه "الفتح القسي في الفتح القدسي"، واختصار كتب "ثورة المريدين" الذي ألفه عبد الملك بن محمد صاحب الصلاة الباجي.
كما خلف لنا عميرة ديوان رسائل جمعه أولا تلميذه وصديقه أحمد بن شنيف العقيلي ثمّ صارت إلى المؤرخ العربي محمد بن عبد الملك بعد وفاته.
وهكذا توفي الكاتب الفقيه الأديب العالم ابن عميرة عن عمر يناهز الخامسة والسبعين (582هـ/656هـ) تميز خلال حياته بالعطاء الوافر في مجالات شتى حتى أضحى "زينة كل مجلس يحضره وحلية كل مجمع يعمره وحسنة من الحسنات التي لا يجود بها الزمان كثيرا" .