الاثنين، 14 يوليو 2014

أبو جعفر بن عطية الأندلسي.د/سامية جباري

هو الكاتب الوزير أبو جعفر بن جعفر بن محمد بن عطية القضاعي كاتب الدولتين المرابطية والموحدية، أصل أسرته من طرطوشة ثمّ انتقلت إلى دانية ثمّ إلى مراكش .
ولد أبو جعفر بمراكش قاعدة الملك المغربي الأندلسي سنة 517هـ تلقى علومه الأولى على يد والده وطائفة كبيرة من أهل مراكش ، نشأ محبا للعلم، ساعيا لاكتسابه فأجاد الأداب وأساليب الإنشاء، ولا نعرف عن حياة مترجمنا الأولى سوى أنه تدرب على فن الكتابة في الديوان، ووالده كان كاتبا لأمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، ويبدو أنه لم يكن كاتبه الخاص، لأن الذي تذكره المصادر تؤكد عليه في ترجمة علي بن يوسف أن كاتبه الذي يحظى عنده بالمكانة الخاصة هو أبو محمد بن أسباط.
فهذا الوالد الذي كان أحد كتاب الديوان لا شك أنه قد أخذ ولده منذ نعومة أظافره بأسباب التربية والتعليم ، فهيأه بذلك لتقلّد خطة الكتابة في الدولة اللمتونية حتى أضحى من كتابها البارزين وهو لم يتجاوز سن العشرين على حد قول المراكشي أنه "كان قبل اتصاله بعبد المؤمن وفي الدولة اللمتونية يكتب لعلي بن يوسف في آخر أيامه" ، ولاسيما أن وفاة علي بن يوسف كانت سنة 537هـ وهذا إن صح يدل على نبوغ مبكر لكاتبنا أبي جعفر.
تؤكد مختلف المصادر أنه عمل دون العشرين في ديوان أمير المسلمين علي بن يوسف ثمّ في ديوان ابنه تاشفين وأنه كان مع هذا الأخير بالمغرب الأوسط حين بعثه سنة 539هـ إلى مراكش كاتبا مع ابنه الأمير إبراهيم ، بينما يخالف هذه الحقيقة ابن خلدون وابن الآبار إذ أقرا أن أحمد بن عطية كان كاتبا لإسحاق بن علي فقط وأن والده هو الذي كتب لعلي وابنه تاشفين .
ويبدو أن أبا جعفر كتب لعلي في أواخر حياته حيث قارب كاتبنا سن العشرين فيمكن بذلك القول إن الأب والابن كانا كاتبين معا في البلاط المرابطي لعلي وابنه تاشفين.
فعظم بذلك شأنه وصاهر المرابطين فصار من خاصتهم إلا أن ذلك النعيم لم يدم فقد قربت نهاية دولتهم بتعاقب أمراء ضعفت قيادتهم العسكرية واستهوتهم نضارة الجزيرة فتوالت هزائمهم أمام الموحدين الذين دخلوا مراكش سنة 541هـ فدان لهم المغرب والأندلس ولم يجد حينها ابن عطية أمامه سوى الهروب خوفا من أن ينال أو يلقى مثل مصير والده الذي قتل بسبب إخلاصه لدولته ولأمرائه اللمتونيين.

فلما سقطت مراكش "أخفى نفسه ودخل في غمار الناس وانظم إلى كتائب الموحدين لا يعلم بحقيقته أحد" ، ويضيف ابن الآبار أنه "بلغ به الحد من الاستخفاء والاستتار إلى أن ارتسم في المرتزقين من الرماة" ، وبقي على حاله من التنكر إلى أن ثار محمد بن عبد الله بن هود الماسي بسوس سنة 542هـ، والذي تشبه بالمهدي بن تومرت فتبعه الناس واجتمعت عليه القبائل وبلغت دعوته إلى جميع أقطار المغرب  حتى لم يبق مع عبد الله بن عبد المؤمن بن علي إلا مراكش كما عند صاحب القرطاس أو مراكش وفاس كما عند صاحب الحلل الموشية.
فجهز عبد المؤمن لقتال الثائر جيشا بقيادة يحيى بن اسحاق أنجمار، فلم يلق نجاحا في القضاء على ثورته مما أضطره أن يرسل جيشا آخر بقيادة أبي حفص الهنتاني الذي لم يتوان في القضاء على ثورته فسماه الموحدون سيف الله تشبيها بخالد بن الوليد .
فهذا الانتصار الكبير جعله يفكر في الكتابة إلى أمير المؤمنين مبشرا بالنصر فلم يلق في جميع من استصحبه من يجلي عنه ويوفي ما أراد إلى أن دل على شاب في سلك الجندية يخاطر بشيء من الشعر والأدب والترسل، فاستحضره القائد أبي حفص لكنه تظاهر بالعجز خوفا من أن يكشف أمره، فاشتد عليه أبو حفص حتى قبل إنشائها ، مما جاء فيها:
"وتقدمت به بشارتنا جملة، حيث لم تعط الحال بشرحه مهلة، كان أولئك الضالون المرتدون قد بطروا عدوانا وظلما، واقتطعوا الكفر معنى وإسما وأملى لهم الله ليزدادوا إثمّا… وأخذهم الله بكفرهم وفسادهم فمن يعاين منهم إلاّ من خر صريعا، وسقى الأرض نجيعا، ولقى من أمر الهنديات أمرا فظيعا…"
فجاءت هذه الرسالة "قطعة من البلاغة المتدفقة والبيان الرائع"  وأنفذت إلى عبد المؤمن فقرنت بمحضر أكابر الدولة فعظم بذلك مقدارها، فصدر عنه الجواب مستوصيا بكتابها خيرا وضرورة الإحسان إليه واستصحابه إلى حضرة الخلافة عزيزا مكرما .
ولما دخل عبد المؤمن سأله عن نفسه فلم يجد بدا من إخفاء حقيقة أمره، وقد قابله بالكرم والتسامح وقلده خطة الكتابة وأسند إليه وزارته
ولم يكتف بذلك كما قال ابن الخطيب" فوض إليه النظر في أموره كلها فنهض بأعباء ما فوض إليه وظهر فيه استقلاله وغناؤه"  وصار بعد ذلك من كبار الرجال الذين تناط بهم المسؤوليات وقد أثنى عليه في الإحاطة "كانت وزارته زينا للوقت وكمالا للدولة"  وقد تعدت خدماته ذلك إلى أن شارك في إخماد الثورات بين الحين والآخر ومصاحبة الأمراء في مهامهم السياسية كلما اقتضت الضرورة، فنجده قد ساهم في إخماد ثورة أخواي المهدي بن تومرت اللذين أضمرا الغدر فدخلا مراكش بصحبة الغادرين فوثبوا على يعمر بن تفراكن وقتلوه، ولما علم بذلك عبد المؤمن بعث إلى وزيره ابن عطية واستطاع أن يخمد هذه الفتنة وأن يقبض على زعيميها عيسى وعبد العزيز .
كما قام بعملية تطهير شاملة في مراكش قضى بها على كثير من الخوارج وقتل المارقين، وعلى إثر هذه الحادثة بعث عبد المؤمن إلى الأشياخ والكافة في مختلف قواعد المغرب والأندلس بشرح ظروف هذه الفتنة مبررا وسيلته في الفتك بالخارجين عن طاعته جاء فيها:".. ذلكم أن الأشقياء فلانا وفلانا وأصحابهما كانت نفوسهم الخبيثة كامنة على أذاها، وعيونهم السخية نائمة على قذاها، وفطرهم ناشئة بما مدها من الغلظة ولم نزل بعد الإمام المعصوم المهدي المعلوم  من أول الزمن نحملهم في حجر الكفالة والكفاية، ونجريهم مجاري العناية والحفاية.."
كما ساهم في إخماد فتنة الوهيبي الثائر بألمرية، فبعث الخليفة وزيره أبا جعفر إلى الأندلس صحبة ولده السيد أبو يعقوب يوسف الذي ندبه لولاية إشبيلية، وأمره بعد استقرار ولده أن يتوجه إلى ألمرية.
ففعل ذلك ونجح في إقناع الثائرين بالتسليم على الأمان ودخل الموحدون ألمرية أواخر سنة 552هـ.
وبينما اشتغل الكاتب الوزير بالقيام بمهامه السياسية خلا الجو لحساده فأوغروا صدر الخليفة كما أجمع الرواة على قولهم "عندما خلا منه الجو ومن الخليفة مكانه وجد حساده السبيل إلى التدبير عليه والسعي به حتى أوغروا صدر الخليفة فاستوزر ابن عبد السلام بن محمد الكومي وانبرى لمطالبة ابن عطية وجد في التماس عوراته وتشنيع سقطاته" .
ومن هؤلاء الوشاة ربيب نعمته وأسير فضله مروان بن عبد العزيز الذي نظم أبياتا شعرية وطرحها بمجلس الخليفة مطلعها:
قل للإمام أطال الله مدته قولا تبين لذي لب حقائقه
إن الزّراجين قوم قد وترتهم وطالب الثأر لم تؤمن بواتقه
وللوزير إلى أرائهم ميـل لذلك ما كثرت فيهم علائقه
فبادر الحزم وإطفاء نارهم  فربما عاق عن أمر عوائقه
فكان لهذه الأبيات أثرها على عبد المؤمن فوغر صدره على وزيره إلا أنهم اختلفوا في سبب نكبته وحصروها في أمرين اثنين: منهم من قال أن أبا جعفر لم يوفق في اصطناع الكثير من اللمتونيين وانتشالهم من خمولهم، والأرجح هو السبب الثاني في كون الخليفة أفضى إليه بسر فأفشاه، وذلك أن ابن عطية تزوج بنت أبي بكر بن يوسف بن تاشفين والتي تعرف ببنت الصحراوية وأخوها يحيى فارس المرابطين المشهور عندهم، فحظي يحيى هذا عند الموحدين وقودوه على من وحد من لمتونة، ولم يزل وجيها عندهم مكرما لديهم إلى أن نقلت عنه إلى عبد المؤمن أشياء كان يفعلها وأقوالا كان يقولها أحنقته عليه، فتحدث عبد المؤمن ببعض ذلك في مجلسه وربما هم بالقبض على يحيى هذا، فرأى الوزير أبو جعفر أن يجمع بين المصلحتين، من نصح أميره وتحذير صهره، فقال لامرأته: قولي لأخيك يتحفظ، وإذا دعوناه غدا فليعتل ويظهر المرض وإن قدر على الهروب واللحاق بجزيرة ميورقة فليفعل، فزاره وجوه أصحابه وسألوه عن علته فأسر إلى بعضهم ممن كان يثق بهم ما بلغه من الوزير، فخرج ذلك الرجل الذي أسر إليه ونقل ذلك كله بجملته إلى رجل من ولد عبد المؤمن فكان هذا هو السبب الأكبر في قتله .
وانتهى ذلك كله إلى أبي جعفر وهو بالأندلس فقلق وعدل الانصراف إلى مراكش  وفور وصوله قيد وسيق إلى المسجد حيث صدر أمر الخليفة باعتقاله واعتقال أخيه، فاصطحبهما معه في رحلته إلى قبر المهدي بقرية تينملل، وقد صدرت عن أبي جعفر لطائف شعرية ونثرية رائعة إلاّ أنها لم تفده في شيء، وأمر بقتلهما أمام حصن تاغمرت سنة 553هـ.
من رسائله الاستعطافية رسالة استهلها بأبيات شعرية بليغة:
"عطفا عليّ أمير المؤمنين قد بان العزاء الفرط الهم والحزن
قد اعرقتنا ذنوب كلها لـجـج ورحمة منكم ألجا من السفن
تالله لو أحاطت بي كل خطيئة، ولم تنفك نفسي عن الأخطاء بطيئة" فلما وقف عليها عبد المؤمن وقّع عليها: "الآن عصيت قبل وكنت من المفسدين"
ومن عجيب الاتفاق أن تكون نهايته شبيهة بنهاية جعفر بن يحيى البرمكي وقد أنشده يوما الكاتب أبو بكر محمد بن نصر الأوسي وكان مختصا بالوزير أبي جعفر أنشده مادحا:
أبا جعفر نلت الذي نال جعفر ولا زلت بالعليا تسر وتحبر
عليك لنا فضل وبر وأنعـم ونحن علينا كل مدح يخبـر
فحدث من حضر المجلس أن أبا جعفر تغير وجهه لما أنشده ابن نصر مطلع هذه القصيدة، لأنه كان قد أحس التغير من عبد المؤمن فخشي أن يكون نهايته كنهاية جعفر البرمكي، وقد كانت كذلك .
وإجمالا، يمكن الإشادة بأعماله في الدولتين المرابطية ككاتب ثمّ الموحدية ككاتب ووزير، فاشتهر خلال ذلك "بإجمال السعي للناس واستمالتهم بالإحسان، وعمت صنائعه وفشا معروفه، فكان محمود السيرة، منصب المحاولات، ناجح المساعي، سعيد المآخذ ميسر المآرب" .
وقال عنه ابن الآبار: "صنيعة الإيالة الحفصية على الحقيقة ونشأة عنايتها الكريمة وهدايتها العتيقة بها بهر بهاؤها واشتهر ابتداؤه وانتهاؤه…"
أما عن حياته الأدبية والفكرية، فقد عرف ابن عطية بباعه الكبير شعرا ونثرا، كما عرف بطلاقة اللسان وسلاسة القلم وبسيطة العلم، كما قال ابن الخطيب: "كان كاتبا بليغا سهل المأخذ منقاد القريحة سيال الطبع رائق الخط"  من شعره:
أنوح على نفسي أم أنتظر الصّفحا قد آن أن تنسى الذنوب وأن تمحى
وها أنا في ليل من السّخط حائـر ولااهتدي حتى أرى للرّضى صبحا
كما امتاز ابن عطية في كتاباته بما يجاري أدباء عصره "في انتقاء الألفاظ واستعمال المحسنات والإكثار من الاقتباس والإشارات والتضمين من غير إخلال بالمعنى ولا تقصير في التعبير عن الغرض المقصود  وله عدد وافر من الرسائل الديوانية جمعها ليفي بروفنصال في كتاب مجموع رسائل موحدية.
ومما يدل على براعته الأدبية ما رواه المقري على أن عبد المؤمن امتحن الشعراء لهجاء ابن عطية، فهجوه، فلما أسمعوه أعرض عنهم وقال: "ذهب ابن عطية، وذهب الأدب معه" .

0 commentaires:

إرسال تعليق