الحمد لله
المعين على الخير، الهادي إلى سواء السبيل والصلاة والسلام على رسوله القائل: )إنما
بعثت لأتمم مكارم الأخلاق(، وعلى
آله وأصحابه أولي الشيم الكريمة والخلال القويمة، وعلى كل من تبعه بإحسان وبعد،
قد لا يختلف
اثنان إذا قال أحدهما إن الأخلاق قاسم مشترك بين الأديان والحضارات، ربما يكون
هناك اختلاف في تحديد مفهومها، ونسبة معياريتها، لكن حدا أدنى من جوهرها لاخلاف
فيه، فلا أحد ينكر أن الصدق قيمة حميدة كما لا ينكر غيره أن الكذب بخلافه، فإذا
نظرنا إلى الموضوع من زاوية الإسلام
وجدناه يُعلي من شأن الأخلاق، ويرى أن مفهومها ينحصر فيما يحفظ إنسانية الإنسان،
ويرفع مكانة الأمة، فعندما أرادت السيدة خديجة-رضي الله عنها- أن تبين لرسول الله r حظوته عند ربه إنما عددت مكارم أخلاقه فقالت[1]:"
كلا، والله لا يخزيك الله أبدا. إنك لتصل الرحم وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب
المعدوم، وتعين على نوائب الحق"، وإذا أُريد وضع الأسس الصحيحة للأسرة
فالقاعدة الأولى هي: )إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه([2]،
وعندما يُراد مقياس لرفعة الأمم وانحطاطها فإن الشاعر يقول:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ومثل هذا المكان الذي تتبوؤه الأخلاق
في بنية العقل المسلم يجعلنا نعرج على نموذج من نماذج الدول الإسلامية الكثيرة،
نحاول أن نبحث فيه انطلاقا من هذه المقدمات عن العلاقة بين الأخلاق واستمرار
الحضارة، وبصيغة أخرى: هي محاولة لحل
الجدلية القائمة بين الترف والقيم، هذا المجتمع سيكون مجتمع ملوك الطوائف
والمرابطين بالأندلس البائدة، امتدادا للرقعة المكانية لرسالة الماجستير التي
درستُ فيها الرسائل الديوانية في المجتمع نفسه، وأنا هنا أسعى للبحث عن أسباب
وآثار ما أسميتُه بالأزمة الأخلاقية في المجتمع الأندلسي، وقد أردت البحث عن
الأسباب والآثار في الأدب الموروث عن هذه الفترة، أستنطقه وأستقرؤه باعتباره سجل
الأمة العربية وديوان أهلها.
بعض الموضوعات
تنطوي على سر أهميتها في عنوانها، فلا يبذل القارىء جهدا لتتضح له هذه الأهمية،
لكن تقليد البحث دأب على إبرازها فأقول: إن البحث في الأزمة الأخلاقية في المجتمع
الأندلسي هو بحث في عوامل ارتفاع وانحطاط الحضارات، فدولة كالأندلس بلغت من الرقي
شأوا صارت تسمى معه فردوسا، ثم انهيارها المروع الذي ترك أثره في كل نفس شهدته أو
سمعت به، مع عزو هذا الانهيار إلى فساد الأخلاق عند الحكام والرعية على السواء، كل
هذا يثير شهية البحث من أجل الوقوف على مدى صدق هذه المقولات، ولئن كتب للبحث
السير على الطريق الصحيح فإنه سيكشف اللثام عن خبايا فترة حرجة من فترات التاريخ
الإسلامي، واعتماد البحث على الأدب للوصول إلى غايته يجعل الموضوع يكتسي أهمية ذات
طابع آخر، إنها إبحار في أعماق الذاكرة الإبداعية والكشف عن قدرة الأدب على خدمة
التاريخ، ثم إن البحث سيتحقق من القول الشائع بأنّ انحطاط الدولة سياسيا يعني
تبعية الأدب لها في الانحطاط.
ينطلق أي بحث
من تساؤل يثور في النفس فتبحث له عن الحل ليكون ذلك مادة البحث وعماده، ولذلك فقد
انطلقت في بحثي من تساؤل جوهري تفرعت عنه مجموعة من الأسئلة، أما التساؤل الجوهري
فهو: إلى أي مدى يمكن أن يكون فساد أخلاق البشر سببا في انهيار حضارتهم؟ ومنه
نتساءل: أيهما سببٌ للآخر فساد الأخلاق سبب انهيار الحضارة، أم الترف وبلوغ الغاية
في الحضارة-كما يرى ابن خلدون-[3]
سبب في فساد الأخلاق؟ كيف يمكن أن تكون الحالة الاجتماعية مرآة للمستقبل، وكيف
يكون الفقر داعيا إلى الانحراف؟
ثم نتساءل
بدقة أكثر: هل صار كل شيء مألوفا فبات من الضروري أن يبحث الناس في عصر ملوك
الطوائف والمرابطين حكاما ورعية عن سبيل إلى التجديد. والجديد يتطلب أموالا طائلة
وتلوينا في الشهوات والملذات، فهل يعني ذلك الاعتداء على المحارم وتجاوز الخطوط
الحمراء؟ إذا وصلت الأمور إلى هذا الحد من التأزم فكيف تكون العواقب؟ أيهما كان
السبب المباشر في أزمة المجتمع الأخلاقية: تردي الأوضاع الاجتماعية، وضنك العيش
الذي تعاني منه الرعية، أم فساد السياسة الحاكمة؟ هذا ما سيحاول البحث تجليته من
خلال الإجابة عن كل هذه الأسئلة.
اقتضت الإشكالية المطروحة اتباع
منهجين:
أولا:المنهج
الوصفي التاريخي: بحيث يتطلب البحث وصف الحالة السياسية
والاجتماعية لعصر ملوك الطوائف والمرابطين، يقف على طبيعة التركيبة البشرية ونوعية
النسيج الاجتماعي والسياسي، حتى تكون الرؤية واضحة للبحث في أسباب الأزمة
الأخلاقية ومظاهرها.
ثانيا: المنهج
التحليلي:
وهو الأساس في البحث، لأنه الأداة القادرة على التوغل في دروب التاريخ مهما كانت
ضيقة، والوسيلة المثلى للتنقيب في أعماق المجتمع سعيا لفهم الظواهر واستنطاقها من
أجل الوقوف على مكمن الداء، فقد حاولت تحليل مختلف الأسباب التي يمكن أن تنجب
الأزمة فوقفت أمام الطبقية والتعسف في السلطة، وتقصيت ما ينجم عنهما من انحراف في
الطبائع والسلوكات، ثم تتبعت آثار ذلك كله على الأدب صحيحه وسقيمه.
من المعلوم أن الخطة تخضع في
النهاية للصورة التي تستقر عليها دراسة المادة واختبار الإشكالية، وهو الذي حدث بالفعل،
فقد تطلبت دراسة المادة العلمية المجموعة لخدمة البحث أن تكون خطته في مدخل وأربعة
فصول، يسعى كل فصل فيها أن يكون تمهيدا للذي يليه، فكان المدخل تعريفا عاما بمفهوم
الأخلاق ومحاولة لتحديد فكرة دقيقة عن جوهر الأخلاق وطبيعتها الفلسفية.
ثم كان الفصل
الأول الذي جعلته دراسة لبنية المجتمع الأندلسي في عصر ملوك الطوائف
والمرابطين، وانقسامه إلى طبقات تفصلها عن بعضها هوة سحيقة ليتشكل في النهاية هرم
أعلاه الطبقة الحاكمة وأذيالها من أصحاب النفوذ وفقهاء الكيل بمكيالين، وأسفلها
العامة والكادحون ممن لا يكادون يحصلون أرزاقهم إلا بشق الأنفس، وبين هؤلاء وأولئك
يتربع الأعيان وأهل الذمة على مساحة ليست باليسيرة.
أما الفصل
الثاني فجعلته جولة في رحاب أدب الفترة محل الدراسة، مُحاوِلة الكشف عن ملامح
الأصالة والالتزام فيه، الأمر الذي جعلني أقف عند دعوة الأدباء إلى الفضائل
والتحلي بالخلال الكريمة كالدعوة إلى تطبيق الشرع والحث على المجد والشرف والإباء،
مما يعطي فكرة عن الجانب المشرق في عصر ملوك الطوائف والمرابطين، ومما يدل أيضا
على أن المجتمع لم يكن مصطبغا بصبغة الأخلاق السيئة وأنها كانت عارضة فيه لأسباب
يبحثها الفصل الموالي.
الفصل الثالث
إذن، هو صلب البحث وعموده، لأنه يغوص في مظاهر الأزمة الأخلاقية للفترة محل
الدراسة، يقف أولا عند أخلاق الحكام فيحلل الظاهرتين الأكثر وضوحا: الترف الذي
تنطق به القصور الفخمة والموائد الفاخرة، وتحكي عنه الجواري ذوات الحسن والعدد. ثم
السياسة المتعسفة الناتجة-بشكل أو بآخر- عن الترف. ويقف البحث ثانيا عند أخلاق
الرعية ويتساءل عما آلت إليه أحوالهم من الانحراف والهوان.
أما الفصل
الأخير فقد كان بحثا في رد الفعل الأدبي تجاه تردي الأخلاق وتدهور الصحة
الاجتماعية أيام ملوك الطوائف والمرابطين، يبدأ بدراسة الغرض الشعري الطاغي وهو
الغزل يبحث في نوعه وطبيعته وفنونه، ثم يعرج على الغرض الذي ينبغي أن ينجبه الوضع
الاجتماعي وهو النقد الميال تجاه الهجاء، فهو يثور على الحكام ويتناول مظاهر الظلم
والترف التي تطغى على سياستهم، وانتهاء بالزهد باعتباره نتيجة منتظرة من فئة يغلب
عليها التدين والحكمة، فتدعو إلى العودة للطريق الصحيح لكن الدواعي إليه قد تختلف
كما سنرى.
.