العلوم الادبية واللغوية:
على الرغم من الانحلال الذي دبّ في الدولة
الأموية عقب الفتنة بانقسام الأندلس إلى دويلات ضعيفة سياسيا واجتماعيا إلاّ أننا
لا يمكن أن ننكر أن عصر ملوك الطوائف من أزهى العصور في العلوم والفنون والآداب،
ذلك أن هذه الدويلات أصبحت تتنافس فيما بينها حتى في مجال الفكر والمفكرين، فتعددت
مراكزهم، ولا نعجب إذ أصبحت كل من إشبيلية وطليطلة ومالقة وبلنسية… تنافس قرطبة التي
"كانت وحدها مركزا للعلوم والفنون في بلاد الأندلس".
وأبرز ما يمكن ملاحظته هو أن معظم ملوك
الأندلس وأمرائها كانوا من أكابر الأدباء والشعراء والعلماء، فمجاهد العامري كان
"من أهل العفاف والعلم قصده العلماء والفقهاء من المشرق والمغرب وألّفوا له
تواليف مفيدة في سائر العلوم" وكان المعتصم بن صمادح يعقد المجالس بقصره
للمذاكرة، و"يجلس يوميا في كل جمعة للفقهاء والخواص يتناظرون بين يديه في كتب
التفسير والحديث".
أمّا المعتمد بن عبّاد فهو أديب عصره،
"طلع في سمائه كل نجم متقد، وكل ذي فهم منتقد فأصبحت حضيرته ميدانا لرهان
الأذهان وغاية لرمي هدف البيان".
وهكذا حظيت الحركة الأدبية والعلمية
بعناية الملوك والأمراء، ولقي أهل العلم والفكر والأدب تشجيعا كبيرا جعلهم يفدون
على القصور ويتنقلون من مدينة إلى أخرى تلبية لحاجات هؤلاء الملوك في احتضان أكبر
عدد من الشعراء والأدباء، فنتج عن ذلك أن كثر الاهتمام بإنشاء المكتبات الخاصة
والعامة وأصبح جمع الكتب حينها يفوق كل لذّة.
ففي قرطبة نجد مكتبة محمد بن يحيى الغافقي
المعروف بابن الموصل (ت433هـ) ضمت أنفس الكتب من بينها الغريب المصنف للقالي ونوادر الأعرابي وغيرهم…
كما كان المظفر صاحب بطليوس عالما بالأدب
والشعر، وصنّف كتابه المظفّري كموسوعة في الآداب والأخبار في نحو خمسين مجلدا،
أمّا مكتبة أحمد بن عباس، فقد قيل أنها ضمت "أربعمئة ألف مجلد".
وممّا أذكى همم العلماء والمفكرين هجرة
الكتب المشرقية، ودخولها المغرب والأندلس، ككتاب القانون لابن سينا، وكتب الفارابي
وديوان المتنبي ومقالات الحريري ورسائل إخوان الصفا، ورسائل بديع الزمان الهمذاني
والخوارزمي، كما دخلت المغرب والأندلس بعض كتب الغزالي، وكان لذلك أثره فاشتغل
الأندلسيون بكتب المشارقة دراسة ونقدا وألّفوا في شتى العلوم من فقه ولغة وتراجم وتاريخ…
وإذا استعرضنا الأحوال الفكرية في الأندلس
إبّان عهد ملوك الطوائف، نجد أن الأدب والشعر يحتلان الصدارة، فقد كان معظم
الأمراء شعراء أو ميّالين إلى قرضه حتى عدّ عصرهم أحسن العصور.
وبنى عبّاد في إشبيلية خير مثال على ذلك،
فقد كان الأدب والشعر من محاسن أسرتهم بدء بالمعتضد الذي "كان من أهل الأدب
البارع، والشعر الرائع والمحبة لذوي المعارف"، وكان لأهل الأدب عنده سوق
نافقة من شعره:
لقد
حصّلت يا رندة فصرت لملكنا عقده
فكم
من عدّة قتلت منهم بعدها عـدّه
نظمت رؤوسهم عقدا فحلـت لبة الشدّة
وقد تعدّى المعتضد قول الشعر إلى أن
استوزر ثلّة من أعظم الشعراء العصر وكتابه، واتخذ كل منهم لقب ذي الوزارتين ، من
أمثال ابن زيدون الذي "جاء من القول بسحر وقلّده أبهى نحر" من شعره:
بيني وبينك ما لو شئت لم يضع سرّ إذا ذاعت الأسرار لم يذع
يا بائعـا حظّـه ولـو بذلـت
لي الحياة بحـظي منه لم أبـع
يكفيك أنّك إن حمّلت قلبي مـا لا تستطيع قلوب النّاس يستطع
وأبو بكر محمد بن عيسى بن اللبانة
(ت507هـ)،
"ملك للمحاسن مقادا وغدا له البديع منقادا"، من شعره:
تبكي السماء بمزن رائـح غاد على
البهـاليل من أبنـاء عبّاد
على الجبال التي هدت قواعدها وكانت الأرض منهم ذات أوتاد
وكان
ابنه المعتمد محطّ الرجال يقصده العلماء والشعراء، كان فصيحا شاعرا مترسلا من شعره
يستعطف أباه:
سن فؤادك لا تذهب بك الفكر ماذا يعيد عليك البث والحذر
فإن يكن قدر قد عاق عن وطر فلا مـرد لما يأتي به القـدر
وإن تكن خيبة في الدّهر واحدة فكم عفوت ومن أشياعك الظفر
وقد كان بنو الأفطس من حماة الشعر والأدب،
ولاسيما في عهد المظفّر الذي وصفه ابن بسام بقوله:" أديب ملوك عصره غير مدافع
ولا منازع"، حيث كان حريصا على جمع علوم الأدب من نحو وشعر ونوادر الأخبار.
أمّا ابنه المتوكل فكان "قدم راسخة
في صناعة النظم والنثر"، من شعرائهم عبد المجيد بن عبدون "الشامخ
الرتبة، العالي الهضبة"، وقد اشتهر بمرثيته لبني الأفطس عقب ذهاب دولتهم،
مطلعها:
الدّهر يفجع بعد العين بالأثر فما البكاء على الأشباح والصـور
أنهاك أنهاك لا ألـوك موعظة عن نومة بين ناب اللّيث والظـفر
فالدّهر حرب وإن أبدى مسالمة والبيض والسود مثل البيض والسمر
كما
تمتع بلاط بن صمادح بعدد من فحول الشعراء، وكان المعتصم بن صمادح أكبر شعراء عصره،
وكان ممن لزمه ابن القزّاز، "أكثر ما اشتهر اسمه وحفظ نظمه في أوزان
الموشحات"
من
شعره:
يا دوحـــة بـظــلالــــها أتــفــيــــا بـل
معقـلا
آوي إليه وألجا
رمدت جفوني منذ حللت هنا ولوكـحلت
برؤيتكم لكانت تبرأ
فخبئت عنك وإنما أنا جـوهـر في طيّ أصداف الحوادث أخبأ
أما الدويلات الأخرى كبني ذي النون
بطليلطة وبني زيري بغرناطة وبني هود بسرقسطة، فقد كان احتفالهم بالأدب ضعيفا إن لم
نقل منعدما.
أما أشهر ما ألف في هذه الحقبة: كتاب
"المظفّري" في نحو خمسين مجلدا للمظفّر بن الأفطس، يعتبر موسوعة في
الفنون والعلوم والأخبار والسير، كتاب"نظم السلوك في وعظ الملوك" لابن
لبانة، وكتاب "الدرر في اختصار المغازي والسير" و"بهجة المجالس
وأنس المجالس" لابن عبد البرّ، و"المنتخب من غريب كلام العرب"
للوقشي، "المدخل إلى الهندسة" و"تفسير كتب إقليدس" للأصبع بن
محمد بن السّمح، ثمّ "معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع" لأبي
عبيد البكري..
أمّا اللّغة فقد كان لبني أمية دور مهم
نحو استعراب الجزيرة لذلك نجد أن اللّغة العربية في عهد الطوائف عمّت مختلف المدن
ونشطت خلالها الدراسات اللّغوية خاصة النحو، "فقد كان المظفّر أحرص النّاس
على جمع علوم الأدب خاصة من النحو"، وكذا مجاهد العامري الذي كان
"مشاركا في علوم اللّسان"، ووفقا لذلك ظهر عدد من النحويين الذين
اشتهروا بمهارتهم في هذا المجال، من أمثال: الأعمى أبو الحسن عليّ بن سيده
(ت458هـ) ، "كان إماما في اللّغة العربية، حافظا لها" له من الكتب"
المحكم في اللّغة"، "الأنيق في شرح الحماسة" وهو في ست مجلدات.
ومنهم أبو عبيد البكري (ت487هـ)
"عالم الأوان ومصنفه ومقرط البيان ومستقه بتواليف كأنها الخرائد، وتصانيف
أبهى من القلائد"، اشتهر بكتابه "معجم ما استعجم من أسماء البلاد
والمواضع".