قامت
الدولة الموحدية رافعة شعار مؤسسها المهدي بن تومرت في ضرورة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وهي الوسيلة التي اتخذها لتحقيق مطمحه السياسي، فاتخذ لنفسه لقب
المهدي المنتظر الذي "يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا".
لذلك حرص خلفاء الموحدين على تغيير
المنكرات، واتخذوا من إمامهم بن تومرت قدوة في ذلك حيث حصر لنا البيذق في كتابه عن
المهدي بن تومرت مواقف عديدة في تغيير المنكر، منها ما حدث عند دخوله تلمسان، فقد
وجد عروسا تزف لبعلها وهي راكبة على سرج واللهو والمنكر أمامها، فكسر الدفوف وغيّر
المنكر وأنزلها عن السرج.
وكان كثيرا ما يذكّر أصحابه بالحدود حتى
لا يدرأوها، من رسائله في ذلك:
"اجتنبوا
المحارم، وردّوا المظالم وتصالحوا وتغافروا فيما بينكم يغفر الله لكم، وأصلحوا ذات
بينكم، ولا تفسدوا في الأرض، ولا تبذروا ولا تسرفوا، ولا تأكلوا أموالكم بينكم
بالباطل…".
وقد حذا حذوه خلفاء الموحدين، حيث" أخذوا على
عاتقهم أن يقمعوا بشدّة كل وال أو مسؤول يبدو عليه التعنّت والانحراف والزيغ، ولو
كان هذا الوالي أقرب الناس إليهم" مثلما فعل عبد المؤمن بن علي عندما عهد إلى
أكبر أولاده محمد وبايعه النّاس، فسرعان ما خلعه لما ظهر منه من أمور لا يصلح معها
للملكة، "من إدمان شرب الخمر، واختلال الرأي وكثرة الطيش وجبن النفس".
كما
تتبّعوا الخمر وشاربيه، حيث بعث المنصور إلى الطلبة والموحدين والأشياخ والأعيان
والكافة بإشبيلية منشورا يأمرهم من خلاله بإراقة المسكرات وتحريم بيعها وتحويل
الحانات إلى حوانيت لبيع الأشياء المباحة، ممّا جاء فيه:
"… ما أسكر كثيره فملء الكفّ منه حرام.. فاقطعوه جملة وتفصيلا، ولا
توجدوا أحدا إلى بيعه سبيلا.. واخلوا الحوانيت التي يباع فيها منه وأفقروها..".
وإلى جانب الشدّة التي تمتع بها خلفاء
الموحدين نجد طريقتهم في "الإحسان إلى الفقراء والعطف على المرضى والعجزة
تتخذ طابعا إنسانيا رائعا".
فقد شهد السكان في عهدهم رخاء عظيما خصوصا
في أيّام الخلفاء الكبار، فقد كان أبو يعقوب سخيّا جوّادا، "استغنى الناس في
أيامه وكثرت في أيديهم الأموال"، كما كانت أيام ابنه المنصور "أيام سعة
وأمن ورخاء ورفاهية وبهجة".
أمّا فيما يخص مداخيل الدولة فقد اعتمدت
على "الزكوات التي يؤديها المسلمون عن طواعيه، وكذا على الجبايات والخراجات،
والأعشار على الغنائم والجزية
والمصادرات".
وإذا نظرنا في هيكل المجتمع الموحدي نجد
ابن تومرت يعتمد على نظام الطبقات التي اختلفت المصادر في تصنيفها، وأفضل ما يعتمد
عليه رواية ابن القطان الذي صنّف الطبقات إلى: العشرة أو أهل الجماعة، وهم أول من
بايع ابن تومرت من السابقين، ثمّ أهل الخمسين وأهل السبعين، الطلبة، وهم علماء
الموحدين، الحفّاظ وهم صغار الطلبة، أهل الدار وهم رجال يخدمون المهدي في داره من
أصحابه يختصون به في ليله ونهاره، هرغة وهي قبيلة ابن تومرت، أهل تينملل، جديوة،
جنفيسة، هنتانة، أهل القبائل، الجند، والفرات وهم الأحداث الصغار الأميون(أو
الغزاة) لكل صنف رتبة لا يتعدّاها إلى غيرها، لكن هذا التصنيف سرعان ما غيّره عبد
المؤمن لخروج بعض القبائل عليه، فاعتمد على طبقات ثلاثة:
الطبقة الأولى وهو السابقون الذين بايعوا المهدي
وصاحبوه وغزوا معه وصلّوا خلفه، والذين اشتركوا في معركة البحيرة سنة 524هـ،
والطبقة الثانية تشمل الذين التحقوا به بعد معركة البحيرة إلى غاية فتح وهران سنة
540هـ ثمّ الطبقة الثالثة تمثّل كلّ من التحق بهم بعد فتح وهران. وخصّ أعضاء
الأسرة المالكة من أبناء عبد المؤمن أنفسهم بلقب السيّد.
كما برز في عهده عنصر الأشياخ الذين
تمتعوا بنفوذ واسع كهيئة استشارية، ثمّ زاد نفوذهم "وقوي مع وفاة الناصر حيث
أصبحت تولية الخلفاء بيد الأشياخ".
كما اجتمع لعبد المؤمن من عساكر الموحدين
والمرتزقة ومن قبائل العرب والبربر وزناتة أزيد من ثلاثمائة ألف فارس ومن جيوش
المتطوعة ثمانون ألف فارس ومائة ألف راجل.
وكثر
عددهم في عهد الناصر، حيث زحفت جيوش المسلمين من العرب إلى أرض المغرب أواخر
المائة السادسة، دخلوا إليه غزاة مجاهدين على ظهور خيولهم، فاندمجت الجيوش العربية
بالبربرية لتشكل جبهة واحدة مجاهدة لنشر الدعوة الموحدية.
إضافة إلى هذه العناصر نجد الغزّ الأتراك
الذين كانوا غالبا ما يحتلون المقدمة في الجيش، وقد بالغ المنصور في إكرامهم، كما
انضاف إلى هؤلاء في عهد المأمون "الروم وكان عددهم يبلغ اثني عشر ألف
مقاتل".
أما اليهود فقد ألزمهم الموحدون بلباس
خاص، حيث كانوا يرتدون زمن المنصور ثيابا كحلية وطاقيات كبيرة ثمّ تغيّر هذا الزي
في أيام الناصر إلى ملابس صفراء وعمائم من نفس اللون.
إذ كان
الفقهاء قد نعموا بنفوذ واسع عهد المرابطين، فإنهم في الدولة الموحدية لم تكن لهم
السلطة إلاّ أن يمنع الموحدين من استشارة القضاة في مختلف شؤون الدولة، مثلما فعل
المأمون حيث استفتى القاضي المكيدي في قتل من نكثوا بيعته، ومنهم شيوخ الموحدين
المستشارون، "فأفتاه بقتلهم حتى بلغ عددهم أربعة عشر ألفا علّقت رؤوسهم
بأسوار مراكش".
وكان القضاة يختصون بتنفيذ أحكام الدين
على سائر الرعية" من ذلك إقامة الحدود وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أمّا المرأة فقد أنكر المهدي سفورها، وقد
كانت له حوادث كثيرة في ردعها، مثال ذلك ما ذكره البيذق أنه لمّا رحل المهدي من
تلمسان نظر في طريقه إلى النساء مزينات محليات يبعن اللبن فغطى حتى جازهن، وقال
كيف تترك النساء محليات مزينات كأنهن قد زففن إلى بعولتهن أما تتقون الله في تغيير
المنكر.
ومواقفه هذه جعلت من المرأة الموحدية أكثر
احتشاما وأقل ظهورا وأكثر تقديرا واحتراما يظهر ذلك جليا في رسالة عبد المؤمن سنة
543هـ، التي ينكر فيها بيع النساء ممّا جاء فيها:
"..يبتاع
المرأة ويبيعها دون استبراء ويبعث في ذلك بكل إقدام على الله تعالى واجتراء ولا
يتحفظ من مواقعه الزنا المحض ومخالفة الواجب من الفرض…"
هذه الظروف لم تمنع المرأة من المشاركة في
الحياة الاجتماعية فقد برزت نساء جليلات في ميدان الفكر والأدب، أبرزهن: زينب بنت
يوسف بن عبد المؤمن، درست علم الأصول على يد أبي عبد الله بن إبراهيم، وكانت عالمة
صائبة الرأي، فاضلة، ومنهن: حفصة بنت الحاج الركونية، والتي مدحت الخليفة عبد
المؤمن ثمّ قامت بتدريس النساء في قصر الخليفة المنصور الموحدي، ومنهن أم خيرون
الفاسية التي اقترحت عليه تأليف كتاب في مذهب الأشاعرة فألف العقيدة البرهانية.
يتبع بعصر بني الاحمر......