وفي عهد الموحدين بلغت الحركة الفكرية
مبلغا عظيما، فقد زخرت المصادر بأعلام ومفكرين في مختلف الميادين إذ أن انشغال
الخلفاء بنشر دعوتهم لم تصرفهم عن العلم أو تشجيع العلماء، فقد كان المهدي بن
تومرت "عالما فقيها راويا للحديث عارفا بالأصول والجدل"، وما مناظرته
لفقهاء المرابطين إلاّ دليلا على تمكنه وفصاحته، وأنه لم يكن ينفك من أن يعقد مجالس
للذكر والوعظ، فاجتمعت إليه الجموع وجاءت الوفود من كل صوب.
وكان خليفته عبد المؤمن على شاكلته
"فصيحا عالما بالأصول والجدل والحديث مشاركا في كثير من العلوم الدينية
والدنيوية" كما عرف بإحسانه لأهل العلم ودعوتهم للجواز بحضرته" ويجري
عليهم الأرزاق السخية".
وقد عدت مدينة مراكش في عهد أبي يعقوب
يوسف بن عبد المؤمن من "أهم مراكز الثقافة الإسلامية في العلوم والآداب
والفنون"، وهكذا كان ملوك الدولة أنفسهم من كبار العلماء والأدباء يغدقون على
أهل العلم والفكر والتاريخ من الأموال والجوائز والهبات الجزلة "ما كان يذكي
من حماسهم ويقوي من نشاطهم".
أما الفلسفة فقد بلغت في العصر الموحدي
ذروتها، ذلك أن ثورة المهدي بن تومرت على الفقهاء لإحراقهم كتب الإمام الغزالي
ثورة أراد من خلالها استرجاع المكانة اللائقة بعالم عصره من خلال نشر مؤلفاته وعقد
المجالس لذلك.
ولما خلفه عبد المؤمن أمر سنة 550هـ
بإحراق كتب الفروع، ورد الناس إلى قراءة كتب الحديث واستنباط الأحكام منها،
"وكتب بذلك إلى جميع طلبة العلم من بلاد الأندلس والعدوة".
بينما خليفته أبو يعقوب يوسف بن عبد
المؤمن فقد كان متبحرا في علوم القرآن والفقه والحديث وقد قال عنه المراكشي:"
طمع به شرف نفسه وعلو همته إلى تعلم الفلسفة فجمع كثيرا من أجزائها… ثمّ تخطى ذلك إلى
ماهو أشرف منه من أنواع الفلسفة
وأمر بجمع كتبها".
كما نشأ يوسف بن عبد المؤمن بين أفاضل
العلماء، "وكان ميله إلى الحكمة والفلسفة أكثر من ميله إلى الأدب وبقية
العلوم"، وكان من أجّل صحبه الوزير أبو بكر محمد بن طفيل، "أحد فلاسفة
المسلمين كان متحققا بجميع أجزاء الفلسفة"، وهو لم يتوقف عند هذا بل كان يجمع
إليه العلماء من كل فن من جميع الأقطار، من بينهم ابن رشد الحفيد، محمد بن محمد بن
رشد، "لم ينشأ بالأندلس مثله كمالا وفضلا، وكان على شرفه أشد الناس تواضعا
وأخفضهم جناحا".
ولما تولى المنصور وقف على سيرة أبيه وجده
"فبنى المدارس في بلاد إفريقية والمغرب والأندلس وأجرى المرتبات على الفقهاء
وطلبة العلم" ثم
أمر بإحراق كتب فروع الفقه، "وأن الفقهاء لا يفتون إلاّ من الكتاب
والسنة"، على أن عناية المنصور بالفلسفة سرعان ما تحولت إلى اضطهاد وتحريق
لكتبها فكانت محنة ابن رشد وكتبت عنه الكتب إلى البلاد بإحراق كتب الفلسفة كلها
إلاّ" ما كان من الطب والحساب وما يتوصل به من علم النجوم في معرفة أوقات
الليل والنهار".
وبعودته من مراكش أدرك خطأه، وجنح لتعلم
الفلسفة وأرسل يستدعي ابن رشد من الأندلس للإحسان إليه، والعفو عنه فبرز حينها عدد
من المتصوفة من أمثال محمد بن علي بن محمد الحاتمي ويعرف بابن العربي (ت638هـ)،
"كان مجموع الفضائل مطبوع الكرم والشمائل".
أما
العلوم الدينية، فقد كان لها حظها في دولة
الموحدين ذلك أن إيمانهم بصحة عقيدتهم، وسعيهم لنشرها جعل الخلفاء قدوة في هذا
المجال فقد عمد ابن تومرت إلى تشجيع علم الأصول والخوض فيه وحذا حذوه باقي
الخلفاء.
أما
كتب الفروع فقد أحرقت معظمها مع عبد المؤمن ثمّ خليفته المنصور كمدونة سحنون وكتاب
ابن يوسف و"التهذيب" للبراذعي، ثم أمر من كان عنده من العلماء والمحدثين
بجمع الأحاديث من المصنفات العشرة على نحو الأحاديث التي جمعها ابن تومرت وكان
يأخذ الناس بحفظها، وكان مقصده في ذلك" محو مذهب مالك وإزالته من المغرب مرة
واحدة" ، فكان نتاج ذلك أن ظهرت أسماء للفقهاء من أمثال عبد الله محمد بن أبي
الحسن بن عبد السلام" ت589هـ)، ذلك " الشيخ الجليل المعمر".
واتسعت
حينها العناية بتفسير القرآن فظهر أقطاب في علوم القرآن والتجويد مثل علي بن محمد
الغافقي، "كان ثقة متحريا ضابطا، عارفا بالأسانيد والرجال والطرق، بقية صالحة
وذخيرة نافعة".
يتبع ....
موضوع جميل