كان المجتمع الأندلسي بعد الفتح الإسلامي
مؤلفا من عناصر متعددة شكلت هيكله العام، فتعددت بذلك أصول سكان الأندلس وأجناسهم،
فقد دخل مع طارق ومغيث وموسى بن نصير عدد كبير من البربر والعرب بلغ عددهم نحو
ثلاثمائة من العرب واحتشد معهم من البربر زهاء عشرة آلاف حسب رواية الناصري، إلاّ
أنهم لم يشكلوا جبهة واحدة، فنشب بينهم صراع مرير تارة بين العرب والبربر وأخرى
بين المضرية واليمنية من العرب أنفسهم.
ثمّ دخل بلج بن بشر الأندلس
وفي صحبته عشرة آلاف، ألفان من الموالي، والباقي من بيوت العرب، وهؤلاء هم الطالعة
الأولى من الشاميين، أما الطالعة الثانية وصلت بصحبة أبي الخطار الكلبي
، فظهر نزاع قبلي
بين الطالعتين حيث "عظمت الفتنة واشتد الاضطراب".
إضافة إلى هذه الأقلية العربية نجد
الموالي الذين شغلوا مناصب هامة في الدولة والجيش مثل بني مغيث وبني جهور وغيرهم
ممن نالوا مقام الحظوة عند أمراء بني أمية، إلى جانبهم نجد المولدين وهم القوط
والإسبان الذين أسلموا منذ الفتح ويعرفون في الإسبانية بالخوارج أو المرتدين RENEGADOS ما لبثوا أن اندمجوا في المجتمع الإسلامي وأضحوا من أهمّ عناصره.
كما نجد هناك عنصرين آخرين قد تجدر
الإشارة إليهما، وهما: المستعربون أو النصارى المعاهدونMOZURABES
الذين آثروا الاحتفاظ بدينهم القديم ولبثوا يعيشون في المدن والأراضي المفتوحة تحت
الحكم الإسلامي.
واليهود، الذين وثق المسلمون فيهم عند
الفتح وضموهم إليهم في كل بلد مفتوح، وتركوا لهم حرية العقيدة، إلاّ أن هذه العناصر
لم تنصهر فيما بينها في عهد الخلافة الأموية ممّا أدى إلى فتن واضطرابات داخلية،
فظهرت العصبية بين العرب والبربر، وكان أشدهم شوكة عمر بن حفصون، الذي أذاع في
الناس بيانا عاما ذكر فيه المظالم وبين الهدف من ثورته هذه وهو انصاف الناس ممّا
جاء فيه:".. طال ما عنف عليكم السلطان، ونزع أموالكم وحملكم فوق طاقتكم
وأذلتكم العرب واستعبدتكم وإنما أريد أن أقوم بثأركم وأخرجكم من عبوديتكم…"، وقد اشتدت فتنته زمنا طويلا وهددت الأندلس تهديدا حقيقيا.
ومما يميّز هذه
الفترة أنه لمّا جاء عبد الرحمن الداخل "اتخذ المماليك وأخذ يشتري
الموالي"، واستعان بالبربر واستجلبهم من برّ العدوة واستكثر منهم ومن العبيد
فكوّن جيشا كبيرا، وسار على طريقه الحكم الربضي، فاستكثر من الخدم والحشم حتى بلغ
مماليكه خمسة آلاف، ثلاثة آلاف منهم فرسان يسمون الخرس لعجمتهم.
وفي عهد الناصر والحكم المستنصر كثر الصقالبة،
وأصبحوا الحرس الخاص للخليفة إلاّ أن مجيء المنصور أسقط زعماء العرب لئلا ينازعوه
السلطة وجنّد البرابرة والمماليك واستكثر من العبيد وأسرى الحرب، واستدعى البربر
ورتّب من هؤلاء جميعا جنده، كما نجد أقلية من الفقهاء الذين حصلوا علما غزيرا
ووصلوا إلى مراكز الصدارة في الدولة والمجتمع، أمثال يحي بن يحيى الليثي.
وفي عهد هشام بن عبد الرحمن
قوي
نفوذ الفقهاء ورجال الدين وتربعوا على أهمّ المناصب، "وكثر تدخلهم في شؤون
الدولة".
أما المرأة الأموية فقد احتلت مكانتها
السياسية، حيث كانت واسعة النفوذ، وتمتعت بقسط وافر من الحرية، من الأسماء الخالدة
عجب التي تمتعت بسلطان واسع عهد هشام بن عبد الرحمن، وصبح قوي نفوذها أيام الحكم
وبن أبي عامر، ولعلّ أهمّ ما تميّز به أمراء قرطبة أنهم كانوا على كثير من التسامح
الديني، فقد منحوا أهل الأندلس الحرية في إقامة شعائرهم الدينية، حيث كانوا خير
مثل للحكام الذين يعملون لخير الرعية دون أثرة أو استبداد، يتحرون العدل بدء بعبد
الرحمن الداخل الذي" كان على سيرة جميلة من العدل" إلى آخر أمرائهم
باستثناء الحكم الربضي الذي ساءت سيرته وقد قال فيه المراكشي:" كان طاغيا
مسرفا وله آثار سوء قبيحة، وهو الذي أوقع بأهل الربض الوقعة المشهورة".
كان هؤلاء الأمراء شديدي الوطأة على أهل
الظلم والجور، فالناصر رأى من واجبه كأمير للمؤمنين أن يحمي عقائد المسلمين من
الانحرافات الضالة، والأفكار المنحرفة، فأصدر بيانا شاملا ضد تعاليم ابن مسرة وهو
من الثائرين الخوارج محذرا أتباعه ومنذرا، حيث قال:" … طلعت فرقة لا تبتغي الخير ولا تأتمر رشدا، من طعام
السواد،
ومن ضعف آرائهم.. فبريت منهم الذمة.. أغلظ أمير المؤمنين في الأخذ فوق أيديهم
وأوعز إيعازا شديدا وإنذارا فظيعا…".
وهكذا لم يترك أمراء بني أمية مجالا
للثائرين إلاّ وأخمدوا ثوراتهم وتتبعوهم خوفا من انحراف العامة، تحقيقا للاستقرار
في ظل حكم عادل.
يتبع ....عصر الطوائف