إن المتصفح لتاريخ الأندلس والباحث في عوامل انهياره، سيجد حتما عوامل متعددة ساهمت في وضع نهاية للمسلمين بالأندلس. ولعل أخطر تلك العوامل ما تعلق بالجانب الأخلاقي والذي سأفرد له دراسة خاصة في هذا الفصل علنا نحدد إلى أي مدى ساهم انهيار الأخلاق وفسادها في ضياع الأندلس بعد قرون ثمانية من الحكم الإسلامي فيها. حتى وإن كانت الفترة محل الدراسة تمثل حقبة معينة –الطوائف والمرابطين– فإننا نجد تشابها بين العصور من هذه الناحية، الأمر الذي يدفع بنا إلى تعميم الظاهرة، ذلك أن معظم الباحثين والمتخصصين في فلسفة الحضارات الإنسانية يعتقدون أن العنصر الأخلاقي، هو العنصر القوي والفعال في الحفاظ على تماسك المجتمعات وتثبيت كيانها( )، وبالتالي فإن أي انحراف في الأخلاق أو ابتعادها عن النهج القويم سيؤدي حتما إلى عواقب وخيمة.
ثم إنّ غياب الوازع الديني من نفوس الناس حكاما ومحكومين سيؤدي حتما إلى حدوث خلل عام، تبدو صوره ومظاهره واضحة للعيان من أهمها ظاهرة ضعف القيم الأخلاقية، وقد أكد ابن خلدون ذلك بقوله: "وإذا فسد الإنسان في قدرته على أخلاقه ودينه، فقد فسدت إنسانيته وصار مسخا على الحقيقة."( )
ومن هذا المنطلق فإننا نجد أنفسنا أمام تساؤلات عديدة لعل أبرزها هل فعلا وجدت في عصر الطوائف والمرابطين أزمة أخلاقية؟ فإن سلمنا بوجود تميع للأخلاق، فمن يتحمل مسؤولية ذلك، هل هم الحكام أم المحكومون؟ ثم إن وجود أزمة أخلاقية تقودنا حتما إلى تحديد مظاهرها، ففيما تمثلت؟
وحتى نستجلي الحقائق أكثر لا بد أن نقف عند كل من الحكام والرعية محللين مظاهر الأزمة الأخلاقية، لنتبين من خلالهما على عاتق من تقع مسؤولية انهيار الحضارة في الأندلس؟
أولا: الترف
لقد ظلّ مسلمو الأندلس خلال القرون الثلاثة الأولى لوجودهم في الأندلس محافظين على شخصيتهم تلك التي تأصلت فيها الأخلاق والقيم النبيلة، ولكنهم بعد أن دبّ الضعف فيهم وعصفت بهم الفتن وضعف الوازع الديني عند بعضهم بدأوا بالتخلي عن بعض تلك الأخلاق والتأثر بأخلاق وعادات غريبة عليهم وعلى مجتمعهم.
يقول العلامة ابن خلدون في مقدمته إنه: "من طبيعة الملك الترف") (، من هنا يمكننا أن نقرّ بأن الترف عامل من عوامل الانهيار والفساد الأخلاقي.
ويبدو ذلك واضحا وجليا في عصر الطوائف، حيث انتزى الملوك على الولايات، واقتسموا الأندلس إمارات، وتسموا بأسماء الملوك، فاتخذوا الألقاب الملكية، وسنّوا القوانين المحلية وراحوا يتنافسون في مظاهر الترف والأبهة، وتأنقوا في المأكل والملبس، وسكنوا القصور والمنيات، "فكثرت رياش الدولة ونعمتها") (، وسادت العصر "روح من البذخ المسرف، والإجرام السافر") ( فبلغ بهم الترف أن أنتج أخلاقا تتماشى والوضعية الاجتماعية.
فغلب عليهم حب الدنيا والسعي للمصالح الذاتية، ولإشباع الغرائز فضلا عن حياة اللهو والترف، وغدا ذلك كله هاجسا دائما، وهدفا مهما سعى إليه الكثير من مسلمي الأندلس حتى ولو أدى ذلك إلى "تقديم تنازلات دينية، أو سياسية، أو خلقية، أو وطنية")
فإذا تحدثنا عن ملوك الطوائف، وجدناهم أبناء الوطن، فقد شبوا في الأندلس وتعودوا على نعيمها وخيراتها، وما هم كما رأينا سابقا سوى تمرد للأرستقراطية المحلية في المدن الكبرى) ( وقد عرفوا بوضعهم الاجتماعي المتميز قبل اضمحلال القيادة المركزية بقرطبة، وبعد استقلالهم بالمناطق ظلّوا محافظين على ثرواتهم، بل زادوا عليها أضعافا مضاعفة، وإلى هذا أشار إدريس خضر بقوله: "إن سكان الحضر الذين ألفوا حياة الراحة والاستجمام، وتعودوا على حياة الترف والإقبال على الملذات، والتهافت على الشهوات، وكثرة الاختلاط، فإنهم قد بعدوا عن طريق الخير وأقبلوا على الدنيا وملاذها وساءت أخلاقهم") (. ولا يتورع أحدهم أن يجهر بحياته الرخية التي كان ينعم بها، كقول المعتمد بن عباد:
ولَقَدْ شَرِبْتُ الرَّاحَ يَسْطَعُ نُورُهَا واللَّيْـلُ قَدْ مَدَّ الظَّـلَامَ رِدَاءَ
حَتَّى تَبَدَّى البَـدْرُ في جَوْزَائِـهِ مَلِكًـا تَنَاهَى بَهْجَـةً وبَهَاءَ
وتَنَاهَضَتْ زُهْرُ النُّجُـومِ يَحُفُّهُ لَأْلَاؤُهَـا فاسْتَكْمَـَل اللَّأْلاءَ
لما أَرَادَ تَنَـُّزهًــا في غَرْبِـِه جَعَلَ الِمَظَّلَةَ فَوْقَـهُ الجَـوْزَاءَ
وتَرَى الكَوَاكِبَ كَالموَاكِبِ حَوْلَهُ
رَفَعَتْ ثُرَيَّـاهَا عَلَيْـهِ لِـوَاءَ
وَحَكَيْتُهُ في الأَرْضِ بَيْنَ كَوَاكِبٍ
وكَوَاعِبٍ جمَعَتْ سَنًا وسَنَـاءَ
إنْ نَشَّرَتْ تلْكَ الدُّرُوعُ حنَادِسًا
مَلَأتْ لنَا هَذِي الكُؤُوسَ ضِيَاءَ
وَإِذَا تَغَنَّـتْ هَـذِهِ في مُزْهِرٍ لمْ تَأْلُ تِلْكَ َعَلى التَّرِيكِ غِنَاءَ) (
ويؤكد بلانثيا "انصراف المعتمد بن عباد إلى اللهو والراحة، وعدم اهتمامه بالحكم وشؤون الرعية") (، وأن له ميولا إلى "تعاطي الملاذ بمختلف أنواعها، وكان رفيقه في ذلك وزيره ابن عمار") (.
أما منذر بن يحي التجيبي صاحب سرقسطة فقد كان "مع سموّه للمعالي مؤثرا لشهواته، غير متردد في قضاء لذاته حيث كان متهالكا على حب الدنيا") (.
وكان أبو يحي محمد بن صمادح صاحب وشقة قد آثر مصالحه الذاتية، "مستبدا بالأموال لإشباع شهواته ولذاته دون قضاء حق في جهاد عدو، أو سدّ ثغر") (.أما أبو الوليد عبد الملك بن جهور فقد "استباح أموال الناس كما سلّط على الرعية أهل الفساد حيث أهمل مسؤوليته الشرعية بل تعاظم على من حواليه وسمّى نفسه بذي الرئاستين المنصور بالله، والظافر بفضل الله") (.
كما عكف الأمير ابن تفلويت صاحب سرقسطة على "منادمة أبي بكر ابن باجة، وكانت تطربهما قينة من القينات المجيدات للشعر والغنـاء") (
والشاعر أبو بكر بن الروح كان "ينادم الأمير إبراهيم بن يوسف بن تاشفين") (.
أما الأمير سير فقد وصفه ابن القطان "بميله إلى الدعة واللهو") (، وقد عرف أنه "يصحب أهل الفكاهة واللهو ولم يتورع عن اقتحام دار أخيه الأمير عمر ليلا يريد زوجته فضربه عمر بسيفه فجرحه جراحة عجلت بوفاته") (.
وكان يدعى إلى هذه المجالس باعتبارها مظهرا للحياة الاجتماعية والعقلية في بلاطات الملوك، أعيان الدولة من وزراء، ونبهاء الشعراء، وأهل الموسيقى والغناء، وبذلك "يتعاون الشعر، والفن، والشراب في إضفاء جو من الأنس والطرب والبهجة على هذه المجالس") (. فهي إذا مكان لمعاقرة الخمرة وارتشاف اللذّة، ولا غرابة في هذا فالخمر من الوسائل المشجعة على الغناء، والموسيقى كانت "مباحة غير منكرة، ولا ناه عن ذلك ولا منتقد، ما لم يؤد السكر إلى شر وعربدة") (، بل أصبح الشراب "عماد المجالس وقوام أمرهـا") (. وقد تغنى الأمراء والشعراء بالخمرة دونما خجل أو حياء، كقول المعتمد:
أيُّهَا الصَّاحِبُ الَّذِي فَارَقَتْ عَيْـنِي ونَفْسِي مِنْهُ السَّنَا والسَّنَاءَ
نحْنُ في المجْلِسِ الَّذِي يَهَبُ الرَّا حَةَ والمسمع الغِنَى والغِنَـاءَ
نَتَعَاطَى الَّتِي تُنْسِيكَ في اللَّذَّ ةِ والـرّقَّةِ الهَوَى والـهَوَاءَ
فَـأْتِهِ، تُلْفِ رَاحَـةً وَمحَيَّا قَدْ أَعَدَّا لَكَ الحَيَا والحَيَـاءَ) (
ومن أبدع شعر الأندلسيين في تصوير الخمر وأثرها في نفوس شاربيها، قول أبي بكر محمد بن عبد الملك بن زهر:
وَمُوَسَّدِينَ عَلَى الأَكُفِّّ خُدُودَهُمْ قَدْ غَالَهُمْ نَوْمُ الصَّبَاحِ وَغَالَني
مَازِلْتُ أَسْقِيهِمْ وَأَشْرَبُ فَضْلَهُمْ حَتَّى سَكِرْتُ وَنَالَهُمْ مَا نَالَني
وَالْخَمْرُ تَعْلَمُ كَيْفَ تَأْخُذُ ثَأْرَهَا إنِّي أَمَلْتُ إِنَـاءَهَا فَأَمَالَني) (
ولم يقف الأمر عند حد التغنّي بها، بل وصل الحال بالأمراء إلى معاقرتها، فعبد الملك بن المنصور نظام الدولة "حاكم شاطبة وبلنسية" كان "منهمكا في الشراب") ) وابن هذيل بن خلف البربري "كان مدمنا للخمر مكثرا من الغثيان") (.
أما المرابطون فإنهم أبناء الصحراء، تميّزوا بشظف العيش، وتعوّدوا على الخشونة والتقشف، ومعظم المصادر أكدت أن زعيمهم الروحي يوسف بن تاشفين بقي محافظا على بداوته، وهو أول أمير مرابطي "بنى مجد الدولة على قاعدة أخلاقية مكتسبة من البيئة الصحراوية) (، وكان كما ذكر المقري مقتصدا في أموره غير متطاول ولا مبذّر، غير سالك نهج الترف والتأنق في اللذة والنعيم") (.
أما الجيل الثاني، فقد مال إلى اقتناص ألوان الترف، وذلك بعد احتكاكهم بالأندلسيين واطلاعهم على أساليب الحياة في المدن الأندلسية، مما "جعلهم يتأثرون بحياة الرفاهية والمتعة التي كان يحياها أبناء الأنـدلس") (، لهذا يؤكد ابن خلدون على "أن الأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد") (.
فالأخلاق المكتسبة من المدنية والترف مجلبة للفساد، وذلك للانهماك في الشهوات والاسترسال فيها، فكانت بداية النهاية.
من هنا نجد اشتراكا واضحا في مظاهر الأزمة الأخلاقية لدى أمراء الطوائف والمرابطين، الذين انجرفوا مع تيار المدنية، وتمتعوا بقدر وافر من حياة الدعة والترف، فقد التمسوا في "مظاهر الترف والأبّهة والفخامة وسيلة للتوهّم بالعظمة، واتخذوا منها قناعا خداعا يخفي حقيقة جبنهم، وتمسحوا بالترف لإخفاء خورهم وضعفهم") (في دولة أشلاؤها ممزقة وأوضاعها السياسية مفكّكة، كل ذلك أمام عدو متربص، استغل الفرقة واختلاف كلمة المسلمين للتضييق عليهم بالجزي حينا وبالاستيلاء على المدن حينا آخر.
والملوك لا همّ لهم سوى "التنافس في استعمال الألقاب الملكية") ( كقولهم: "كبير أمراء الأندلس") ( وهو لقب اختص به يحي بن ذي النون، و"أسد الملوك وشهاب الفتنة") (، لقب عرف به المعتضد، أما لقب "ملك الملوك" فقد استأثر به المعتمد بن عباد، كقوله:
مَلِكَ الملُوكِ أَسَامِعٌ فَأُنَادِي أَمْ قَدْ عَدَتْكَ عَنِ السَّمَاعِ عَوَاِد) (
أما أمراء المرابطين فقد استأثروا بلقب أمراء المسلمين؛ كما أطلق لقب ملك الملوك على علي بن يوسف، يقول التطيلي في هذا الشأن:
إِلَى مَلِكِ الملُوكِ هَفَا بِلُبِّي وَقَدْ َسِئمَتْ نَوَاظِرَهَا العُيُونُ) (
وحفاظا منهم على مظاهر الملك سعوا لعقد مجالس الأنس والطرب وهي نتاج طبيعي لحياة الترف التي عاشها هؤلاء الأمراء، إذ كان للسعة ورفه العيش الذي أحاط بالأندلسيين وشمل خاصتهم وعامتهم أكبر الأثر فوق ذلك في "جنوحهم إلى اللهو وعكوفهم على اللذات ومتع النفس، وإقبالهم على الغناء وميلهم إلى الموسيقى وعقدهم لذلك المجالس والمقامات") (.
ومن الناحية التاريخية، بدأت مجالس الأنس كظاهرة اجتماعية في أخريات دولة الأمويين في الأندلس، ثم أخذت هذه الظاهرة في "الشيوع والانتشار في عصر ملوك الطوائف وما تلاها من عصور") (.
فبعد الفتنة البربرية، واضمحلال السلطة المركزية، أضحى من البديهي أن يتصرف الأندلسي حسب ميوله وأهوائه مساهما في تطوير مجتمعه ماديا ومعنويا، منغمسا في شهواته إلى حد الإباحية وهي حرّية لم يحظ بها من قبل، لاسيما وأن فقهاء الفترة الذين جدّوا في "فرض سياسة أخلاقية وفكرية متعسفة") (، لم يعد لهم وجود, وفي هذا يعطينا ابن قزمان صورة عن هذا المجتمع المتفسّخ الذي لا قيود فيه، متحدثا عن الربض الذي يسكنه ليس به من يضايقه من الفقهاء ولا الحجاج, أي الرجال والشيوخ ولم يعد به إلا الأرامل الجميلات:
والرَبْضْ لاَ شْيوُخْ ولا حُجَّاجْ وأَرَامَلْ مْلاَحْ بـْلاَ أَزْوَاجْ
وَيجْوُنْ طُولْ النْهَارْ عن حَاجْ وأَشْيَاتْ لَسْ يَنْبْغِي أَنْ تُقَالْ) (
ثم امتدت هذه الحرية إلى الملوك، فرأيتهم يرخون العنان للهوهم وطربهم، وللهو النّاس وطربهم، مادام هذا اللّهو والطرب لا يمسّان الدّين الذي له حرمته في النفوس، "فانتشرت الخلاعة وعمّت مجالس اللّهو وساءت الأخلاق") (وانتشرت الكثير من الأمراض الخلقية بينهم كحياة الترف، والمجون، والخلاعة، وشرب الخمر، والاستغراق في الملذات الجسدية، والإكثار من الجواري والنساء وهي "الأمور التي صارت قاسما مشتركا بين كثير من دول الطوائف") (، ومماّ لاشكّ فيه أنّ وجود مثل هذه الأمراض الخلقية يمثّل معولا من أكبر معاول الهدم التي تقضي على الأمم والجماعات وفقا لقوله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ( ).
حسبنا في ذلك ما جادت به قريحة المعتضد بن عباد واصفا حاله بين العزم واللهو:
قَسَمْتُ زَمَانِي بَيْنَ كَدٍّ ورَاحَـةٍ فَلِلرَّأْيِ أَسْحَارٌ وللِطِّيبِ آمَـالُ
فَأُمْسِي عَلَى اللَّذَّاتِ واللَّهْوِ عَاكِفًا وأُضْحِي بِسَاحَاتِ الرِّئَاسَةِ أَخْتَالُ
وَلَسْتُ عَلَى الِإدْمَانِ أُغْفِلُ بُغْيَتـِي مِنَ المجْدِ إِنِّي في المعَالي لمَحْتَـالُ) (
ولا غرابة في ذلك فقد عرف "بإفراطه في الشراب والانغماس في أنواع المتعة") ( إذ يقول:
لَعُمْرُكَ إِنِّي بِاُلمدَامِ لَقَوَّالُ وَإَِنِّي لما يَهْوَى النَّدَامَى لَفَعَّالُ) (
بينما "يحي المأمون ملك طليطلة اشتغل بالخلاعة والمجون") (, كما أكّدت النصوص على أن الأمير أبا بكر بن إبراهيم "جبل على تعاطي الشراب والسّهر مع جواريه، وكان ينفق الأموال يمينا وشمالا") (ويصف لنا المخزومي في مقطوعة شعرية بعث بها إلى علي بن يوسف بن تاشفين مندّدا بسلوك والي غرناطة أبي بكر محمد بن سعيد بن خلف الذي ترامى في ألوان اللّهو، مفرطا في القيام بواجبه:
إِلَيْكَ أَمِيرَ المؤْمِنِينَ نَصِيحَـةٌ يجُوزُ بها البَحْرَ الُمجَعْجِعَ شَاعِرُ
بغْرَناَطَةٍ وَلَّيْتَ في النَّاسِ عَامِلا وَلَكِنْ بما تحْوِيـهِ ِمْنُه المــآزِرُ
وَأَنْتَ ومَا تخْفَى عَلَيْكَ خَفِيَّةٌ فَسَلْ أَهْلَهَا فَالأَمْرُ للنَّاسِ ظَـاهِرُ
وَمَا لإِلَهِ العَرْشِ تُغْنِيهِ حَمْدًةٌ وَزَيْنَبٌ والكَأْسُ الَّذِي هُوَ دَائِرُ) (
والحديث عن الخمر سيقودنا حتما إلى الحديث عن الجواري، فقد حفلت المجالس بالقينات والجواري الحسان، الأمر الذي جعل الأمراء "يحرصون كلّ الحرص على اقتناء المغنيات ذوات المواهب الفنّية من الجواري والقيان، ثم تعليمهن وتدريبهن على فنـون الموسـيقى والغنـاء") (وقد كنّ على وجه العموم يثقفن ثقافة خاصة تساعدهن على أداء واجباتهن فكن "يتعلمن رواية الشعر، والغناء، والموسيقى، والرقص، ويخترن من بين الجواري الحسان") (، فقد اشترى المعتمد جارية بثلاثين ألفا بعد أن أعجب بغنائها وحسن إتقانها لغتها، بينما بعث المعتضد "رسولا إلى قرطبة يطلب جارية زامرة") (, كما يذكر المقري أن يوسف بن تاشفين "أهدى المعتمد جارية مغنية") (.
ولشدّة ولع الأندلسيين بالغناء فإنهم كانوا ينظمون القصائد تغزلا بالمغنيين كالذي نجده عند ابن خفاجة إذ يقول:
وَمُغَرِّدٍ هَزَجِ الغِنَاءِ مُطَرِّبٍ تَلْقَى بِهِ لَيْلَ التَّمَامِ فَيَـقْصُـرُ
سَفَرَ الشَّبَابُ لنا به عَنْ غُرَّةٍ تَرْمِي بِهَا لَيْلَ السُّرَارِ فَيُقْمِـرُ
غَازَلْتُهُ حَيْثُ المدَامَةُ وَالحُبَا بَةُ وَجْـنَةٌ تَدْمَى وَعَيْنٌ تَنْظُـرُ
مَلَأَ المسَامِعَ والعُيُونَ محَاسِنًا فَلَمْ أَدْرِ هَلْ أُصْغِي إِلَيْهِ أَمَ أنْظُرُ) (
أمّا ابن حمديس فقد وصف راقصات بقوله:
وَمِنْ رَاقِصَاتٍ سَاحِبَاتٍ ذُيُولهَا شَوَادٍ بمِسْكٍ في العَبِيرِ تُضَمِّخُ
كَمَا جَرَّرَتْ أَذْيَالهَا في هُذَيْلِهَا حمَائِمُ أَيْكٍ أَوْ طَوَاوِيسُ تَبذَّخُ) (
وهكذا كان للمغنين على اختلاف منازلهم شأن رفيع في مجالس الخلفاء والأمراء، ونصيب وافر من نوالهم وعطاياهم، فحفت المجالس بالجواري والقيان يجلسون لسماعهن جلوسا بعيدا عن الحشمة، ويدعون أصحابهم إلى ذلك السماع، "ويدور الشراب ويبتذل الناس تبذلا شديدا، ويطرحون الحشمة، ويقع ما يتنافى مع الخلق والكرامة، وكل معنى من معاني الّدين") (.
وقد اتخذت هذه المجالس أشكالا متنوعة، فلم تقتصر على بلاطات الملوك في قصورهم، بل تعدّت ذلك إلى ما يضفي عليها مسحة من الجمال الطبيعي، فانعقدت في الزوارق على ضفاف الأنهار، كالذي نجده عند ابن حمديس وهو يصف مجلسا من هذه المجالس حيث كانوا يجلسون على ساقية ماء مستديرة في بستان، والندامى على جوانبها:
وَسَاقِيَةٍ تَسْقِي النَّدَامَى بِـمُدِّهَا كُؤُوسًا مِنَ الصَّهْبَاءِ طَاغِيَةَ السُّكْرِ
يُعَوَّمُ فِيهَا كُلُّ جَامٍ كَأَنـَّمَا تَضَمَّنُ رُوحَ الشَّمْسِ في جَسَدِ البَدْرِ
إذَا قَصَدَتْ منَّا نَدِيمًا زُجَاجَـةٌ تَنَاوَلَـهَا رِفْقًـا بَأَنمُلِـهِ العَشْـرِ
فَيَشْرَبُ مِنْـهَا سَكْرَةً عِنَبِيـَةً تُنَوَّمُ عَيْنَ الصَّحْوِ مِنْهُ وَمَا يَـدْرِي) (
واستدعي إليها أهل الغناء والطرب ومنهم من فضّل الطبيعة الغنّاء فاتخذ من رياحينها، وشطآنها، وجداولها مسرحا لتلك المجالس، "وتميّزت بجو مفعم بالتهتك وخلع العذار وتناول المسكرات، والعبث بالغلمان، والتغزل بالجواري") (، وفي هذا يورد ابن الجد أبياتا ينتقد فيها هذه السياسة قائلا:
قَامُوا وأسْرَى لهم تحْتَ الدُّجَى قَدَرُ هَوَى بأَنجُمِهِمْ خَسْفًا ومَا شَعَرُوا
وكيْفَ يَشْعُرُ مَن في كَفِّهِ قَـدَحٌ يحْدُو بهِ مُلْهِيَاهُ النَّايُ والوَتَــرُ
صُمَّتْ مَسَامعُهُ مِنْ غيْرِ نغْمَتِـهِ ممَّا تمُـرُّ بهِ الآيَاتُ والسُّــوَرُ
مِنْ حَوْلِـهِ كُلُّ مُغْتَرٍّ ومَا عَلمُوا إنَّ الذِي زَخْرَفَتْ دُنْيَاهُمُ غَرَرُ) (
وإلى جانب مجالس الأنس والطرب، ولع الملوك والأمراء بتشييد القصور والمنيات التي "أسرفوا في تشييدها على غرار قصور الأمويين والعباسيين في المشرق") ( فاتخذوها منتجعات للاستجمام والراحة وللاستغراق في حياة اللهو والترف والنعيم؛ وهذا عين ما ذهب إليه ابن خلدون حين عدّها من ثمرات الملك في قوله: "تحصيل ثمرات الملك من المباني والملابس، فيبنون القصور ويستمتعون بأحوال الدنيا") (.
وقد أشرنا سابقا إلى مظاهر الأبهة والترف التي ميزت قصور الطبقة الأرستقراطية من فخامة بناء، وبسط للفرش والستائر، وتزيينها بأروع الأثاث التي أبدع صنعها الحرفيون والصنّاع، كما أسرفوا في زخرفتها وألحقوا بها البساتين الغنّاء والبرك ذات المرمر والفسيفساء") (
من هنا كان تنافس الأمراء شديدا في بناء القصور، إذ باتت مظهرا للعزّة السلطانية والأبهة الملوكية، فأحضروا لها أبرع الفنانين والمهندسين ممن تفننوا في زخارفها وأبدعوا في نقوشها وأجادوا الصنعة فيها، ويكفينا أن نطالع وصف ابن حيّان للقصر الذي أقامه المأمون بن ذي النون بطليطلة سنة 445هـ وأتقنه للغاية وأنفق عليه أموالا طائلة، "فجعل في وسطه بحيرة، وصنع في وسط البحيرة قبة من الزجاج الملون المنقوش بالذهب، وجلب الماء على رأس القبة بتدبير أحكمه المهندسون، فكان الماء ينزل من أعلى القبة على جوانبها محيطا بها، ويتصل بعضه ببعض، فكانت قبة الزجاج في غلالة مما سكب خلف الزجاج لا يفتر من الجري، والمأمون قاعد فيه لا يمسّه الماء ولا يصل إليه وتوقد فيه الشموع، فيرى لذلك منظر بديع عجيب". ) (
وقد وقف الشعراء من هذا الموقف المتأمل لجماله، المظهر لبهائه في قصائد حشدوها بعبارات العظمة والجلال كقول عبد الجليل بن وهبون يصف قصر الزاهي:
وَللزَّاهِي الكَمَالُ سَنًا وَحُسْنًا
كَمَا وَسِعَ الجَلالَةَ والكَمَالا
يُحَاطُ بِشَكْلِهِ عَرْضًا وَطُولًا
وَلَكِنْ لا يُحَـاطُ بِهِ جَمَالَا
تَوَاصَلَتِ المحَاسِنُ فِيهِ شَتـَّّى فَوَفْدُ اللَّحْظِ يَنْتَقِـلُ انْتِقَـالا
وَقُورٌ مِثْلَ رُكْنِ الطُّودِ ثَبْتلإ ومخْتَالٌ مِـنَ الحُسْنِ اخْتِيَـالا
فَمَا أَبْقَى شِهَابًا لمْ يُصَـوَّبْ وَلاَ شَََمْسًا تُنِيرُلا وَلا هِـلالا) (
ومنها وصف ابن عمار لقصر الدمشق بقرطبة:
كُلُّ قَصْرٍ بَعْدَ الدِّمَشْقِ يُـذَمُّ
فيهِ طَابَ الجنَى وفَاحَ المِشَمُّ
مَنْظَـرٌ رَائِقٌ، وَمَـاءٌ نمَِِيـرٌ
وَثَرًى عَاطِرٌ، وَقَصْرٌ أَشَـمُّ
بِتُّ فِيهِ واللَّيْلُ والفَجْرُ عِنْدِي
عَنْبرٌ أَشَهَبٌ، ومِسْكٌ أَحَمُّ ( (
كما يعتبر ابن حمديس من الوصافين المجيدين في هذا المقام، وله قصائد في وصف قصور العباديين، منها:
وَيَا حَبّذَا دَارٌ يَـدُ اللهِ مَسَّحَتْ عَلَيْهَا بِتَجْدِيدِ البَقَاءِ فَمَا تَبْلَـى
مُقَدَّسَـةٌ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَليمَهُ مَشَى قُدُماً في أَرْضِهَا خَلَعَ النَّعْلا
ِإَذا فُتِّحَتْ أَبْوَابُـهَا خِلْتَ أنَّهَا تَقُولُ بِتَرْحِيـبٍ لِدَاخِـلِهَا أَهْلا
وَقَدْ نَقَلَتْ صُنَّاعُهَا مِنْ صِفَاتِـهِ إِلَيهَـا أَفَانِينًا فَأَحْسَنـتِ النَّقْلا
فَمِنْ صَدْرِهِ رَحْبًا ومِنْ وَجْهِهِ سَنًا ومِنْ صِيتِهِ فَرْعًا ومِنْ حِلْمِهِ أَصْلا
نَسِيتُ به إِيوَانَ كِسْرَى لأنّـهُ أَرَاني لهُ مَوْلًى منَ الفَضْلِ لا مِثْلا) (
فالقصر على حد قول ابن حمديس اقتبس من المعتمد رحابة الصدر وإشراقة الوجه، وعلو الصيت، والسمعة، والحلم، والشرف الرفيع.
ثم قصر الجعفرية في سرقسطة وقد ابتناه المقتدر بن هود وضمّ هذا القصر بهوا مذهبا دعي بمجلس الذهب، وفيه يقول:
قَصْرَ السُّرُورِ وَمجلسَ الذَّهَبِ بِكُمَا بَلَغْتُ نهَايَـةَ الأرَبِ
لَوْ لم يحُزْ مُلْكِي خِلافَكُمَا كَانَتْ لَدَيَّ كِفَايَةُ الطَّلَبِ) (
والقصر الوحيد "الذي بقيت آثاره من عهد المرابطين "منتقوط" الواقع شرقي مرسية") (، يبدو من الخارج حصنا منيعا ترتفع جدرانه في شموخ، وتسندها ركائز ضخمة، ومن الداخل تزدان أزر جدرانه بزخارف هندسية، مدهونة بالألوان تسودها البساطة والخشونة، ويظهر تأنقهم في المنية التي كان ينزل فيها الأمير علي بن يوسف كلما حل بإشبيلية.
ومنها ما شيّده يوسف بن تاشفين أوّل ولايته وهو "قصر الحجر بمراكش") (، وقد تفنن المهندسون في زخرفة هذه القصور حتى بدت زاخرة بمظاهر حياة الترف.
يقول أحد الشعراء في قصر ابن حمدين:
دَعْ عَنْكَ حَضْرَةَ بَغْدَادٍ وعَجَّتَهَا ولا تُعَظِّمْ بِلادَ الفُرْسِ والصِّينِ
فَما عَلى الأرْضِ قَصْرٌ مثلُ قُرطُبةٍ ولا مَشَا فَوْقهَا مِثْلُ ابنِ حَمْدِينِ) (
كما ذكر ابن بسّام قصر بني عشرة بسلا أيام المرابطين وأنه بلغ منتهى الروعة، وأخذ بمجامع قلوب الشعراء، فوصفوه بما ينمّ عن فخامة البناء وجلالة المظهر:
يا أَوْحَدَ النّاسِ قدْ شَيَّدْتَ وَاحِدَةً فَحُلَّ فِيها حُلُولَ الشَّمْسِ في الجبَلِ
فَمَا كَدَارِكَ في الدُّنْيَا لِذِي أمَـلٍ ولا كَدَارِكَ في الأُخْرَى لِذِي عَمَلِ) (
ونستطيع أن نقرّ هنا أن كثيرا من الأبنية والمشروعات العمرانية، جاءت في سياق التنافس في إثبات الذات، والغلبة على النظراء، وفي سياق التفاخر والتكاثر .
ومن مظاهر الترف "اكتظاظ قصور الأمراء بالعبيد، والخدم، والإماء واستقدام الجواري من بلاد الإفرنج والسودان") (، حيث كان التنافس في اقتناء هؤلاء شديدا، جلبوهم من مختلف مناطق العالم، "فهناك الهندية، والرومية، والبربرية، والحجازية والزنجية") (.
وما وجود أسواق الرقيق إلا دليل على رواجهن واقتنائهن -كما قال إحسان عباس- "أمر متصل بطبيعة الترف في قصور الأمراء ودور الأثرياء، وهم يغالون في أثمانهن، إذا أحسنت الجارية فنونا متنوعة من علم، وخط، وشعر") (. وقد يبذلون أثمانا باهضة لتحصيل الواحدة منهن، وتزداد أثمانهن ارتفاعا "كلما تعددت صفات الجارية، واتسـعت ثقافتها") (، فهذيل بن رزين صاحب السهلة بذل "ثلاثة آلاف دينار لاشتراء جارية اشتد التنافس عليها") ( وأكثر منهن حتى عدت ستارته أرفع ستائر الملوك.
كما حرص المعتضد على "شراء قينة عبد الرحيم الوزير من قرطبة إثر وفاته لمّا وصفت له بالحذق في صنعتها". ) (
لذلك نشطت سوق الرقيق نشاطا كبيرا و"جلب التجّار اليهود إلى الأندلس عدادا هائلة من الفتيّات، والقينات الإسبانيات، والإفرنجيات" ) (
ونظرا لكثرة هؤلاء في القصور، فقد كلّفوا بأعمال معيّنة، فاقتصر العبيد على خدمة الأميرات، أما الجواري فمنهن من كانت للخدمة وإدارة شؤون القصر، وتميزت أخريات بجلب المتعة لأسيادهنّ فعرفن بجواري المتعة، وغالبا ما يكون التنافس بين هؤلاء شديدا لنيل الحظوة لدى السيّد فتصبح حظيّته وأم أولاده. كاعتماد الرميكية التي ولع بها المعتمد "فصرفته عن شؤون الدولة، وورّطته في ضروب الخلاعة والاستهتار") )، كما عرف بكلفه الشديد بالنساء من جواريه كجوهرة التي بلغت من قلبه مبلغا كبيرا قال فيها حين هجرته:
جَـوْهَـرَةٌ عَـذَّبَـني مِنْكِ تمَادِي الغَضَـبِ
فَـزَفْرَتِي في صَـعَـدٍ وَعَـبْرَتِـي في صَبَبِ
يا كَوْكَبَ الحُسْنِ الَّذِي أزرى بزهر الشُّـهُبِ
مسْـكَنُـكِ القَلْبُ فلا تَرْضَيْ لهُ بِالوَصَبِ) (
وله في جاريته سحر:
عَفَا اللهُ عَنْ سِحْرٍ عَلى كُلِّ حَالَـةٍ ولا حُوسِبَتْ عَمَّا بها أنا وَاجِدُ
أَسِحْرٌ ظَلَمْتِ النَّفسَ وأخَّرْتِ فُرْقَتي فَجَمَّعْتِ أَحْزَاني وَهُـنَّ شَوَارِدُ
وكَانَتْ شُجوني بِاقْتِرابِكِ نُزَحـاً فهَا هُنَّ كما أَنْ نَأَيْتِ شَوَاهِدُ) (
وله في جاريته وداد:
اشْرَبِ الكأسَ في وِدَادِ وِدَادِكْ
وَتَأَنَّسْ بِذِكْرِها في انْفِرادِكْ
قَمَرٌ غاب عن جُفُونِكَ مَـرْآ
هُ وسُكْنَاهُ في سَوَادِ فُؤَادِكْ) (
أما المعتضد، فكان ذا كلف بالنساء، فاستوسع في اتخاذهن وخلط في أجناسهن فانتهى في ذلك إلى مدى لم يبلغه أحد من نظرائه، فقيل أنّه خلّف من صنوف السريّات منهن خاصة نحو سبعين جارية.
وتحكي إحدى الوثائق أن "وزيرا من وزراء الملوك الأولين لمدينة ألمرية كان له حريم يتألف من خمسمائة من الجواري، والعبيد، والخدم" ) (
ومن مظاهر ترفهم واندماجهم مع مرحلة المدنية أنهم "استكثروا من عناصر الفرق العسكرية المرتزقة لحماية كيانهم") (، فاستعملوهم على نطاق واسع بغض النظر عن أصلهم ودينهم، ومن أجل ذلك "تدفّقت عليهم أعداد غفيرة من نصارى الشمال نظير أجور معينة" ( (، ولم تشذ عن ذلك أية مملكة من ممالك الطوائف الرئيسية، فكلها استعانت بهم كمأجورين أو حلفاء وذلك لحاجتهم الماسة لما يتمتع به هؤلاء من قوة وكفاءة عسكرية إضافة إلى عدم منازعتهم الملك.
كما أثبتت بعض الروايات أن يوسف بن تاشفين "استكثر منهم حتى بلغ عددهم بين 240 و250 فارسا") ( مع أول دفعة اشتراها, وكان هدفه من وراء ذلك تقوية شخصيته، وفرض هيبته وملكه؛ يقول ابن عذاري: "وأركب الجميع فغلّظ حجّابه وعظّم ملكه ") (
كما اعتبر صاحب الحلل الموشية عليّا "أول من استخدمهم إذ أوكل إليهم وظائف متعددة، وقد بلغ عددهم آنذاك أربعة آلاف) (
ومن هنا يتبين لنا أن الأمراء والملوك نشأوا في ظلال وارفة وعيش مترف، وحياة كلّها دعة بين أحضان الجواري والقيان مسترسلين في شهواتهم بين وتر وكأس، منجرفين في تيار حضارة قوامها الترف، والبذخ، والإسراف، وما هذا التهتك إلا نتيجة لضعف الوازع الديني، وضياع القيم الأخلاقية واستئثار أخلاق اللّذة والمنفعة الشخصية بكل شئ.
ويبدو أن حياة الترف التي انغمس فيها الملوك والأمراء جعلتنا نستشفّ بعض الأمراض النفسية التي سادت المجتمع الأندلسي، إذ كانت حياتهم هذه قائمة أساسا على المتع والمتعة الجنسية، "فانعكس كل ذلك على نشاطهم السياسي، وأعمالهم العسكرية") (
وقد زخرت المادة الشعرية بإشارات عديدة تدل على أبعاد نفسية قوامها الجنس، فالمدينة امرأة حسناء فاتنة جاء الأمير ليخطبها أو ليفتضّها.
يقول ابن القصيرة:
ويا شَدَّ ما أَغْرَتْهُ قُرطبةٌ وقدْ أَبْشَرَتْها خَيْلُنَا فكانَ لكَ الدُّرُّ) (
وقال المعتمد:
خَطَبْتَ قرطبةَ الحسنـاءَ إذْ مَنَعَتْ مَنْ جاء يَخْطُبُهَا بالبِيضِ والأَسَلِ
وكَمْ غَدَتْ عَاطلا حتى عَرَضْتَ لها فأصبَحَتْ في سَرِيِّ الحُلِيِ والحُلَلِ
عِرْسُ الملُوكِ لنا مِنْ قَصْرِها عُرُسٌ كُـلُّ الملُوكِ به في مَأْتَمِ الوَجَلِ) (
فالمعتمد يصور الحصار المفروض على قرطبة بالتقدم لخطبتها، وعسر الاستيلاء عليها إنما هو عدم قبولها، بينما فتحها يمثل الرضى والقبول.
ولما دخل ابن هود دانية، صوّر الشاعر أبو الحسن علي بن عبد الغني الحصري دخوله، برغبته في النكاح فقال:
كذَا تُفْتَضُّ أبْكَـارُ البِــلادِ ولا مَهْرٌ سوى البِيضِ الحِدَادِ) (
والمعنى نفسه يورده ابن عمّار عند دخول المعتضد قرمونة:
هَنِيئًا بِبِكْرٍ في الفُتوحِ نَكَحْتَها وما قَبَضَتْ غيْرَ المنيَّةِ في النَّقْدِ)
ثانيا: السياسة المتعسّفة:
فإذا كانت هذه هي أخلاق الحكام والأمراء في حياتهم الخاصة، فكيف هي أخلاقهم مع الرعيّة ؟ هل انغماسهم في نتاج الحضارة والمدنية كان له تأثير في انتهاجهم سياسة اجتماعية معيّنة ؟
يقول ابن خلدون إن: "الترف مفسد للخلق بما يحصل في النفس من ألوان الشرّ ... فتذهب منهم خلال الخير التي كانت علامة على الملك ودليلا عليه، ويتّصفون بما يناقضها من خلال الشرّ فتكون علامة على الإدبار والانقراض." ) (
إن النظر والتمعّن في مقولة ابن خلدون يجعلنا نتبيّن أنّ من عوامل انهيار الدولة الإسلاميّة تماديها في تسيير شؤونها السياسية بأخلاق تعسفيّة، بعيدة كل البعد عن أخلاق الملوك. لأن السلطة التي تعتمد على البذخ، والتبذير، والإسراف في النفقات سيؤدي بها ذلك حتما إلى ابتزاز أموال الرعيّة ظلما وعدوانا، فتنعدم الثقة، وتكثر الاضطرابات، وتشيع الفواحش، وتضيع القيم فتنهار الدولة.
إذا سلّمنا بهذا حقا، فما هي الأخلاق السياسية التي انتهجها الأمراء وذوي النفوذ في السلطة تجاه الرّعية ؟
إن حياة الترف التي ميّزت الطبقة الحاكمة، ورغبتها في التحلّّي بمظاهر الفخامة والأبهة قادتها إلى فرض سياسات قمعيّة على الرّعية، وذلك حفاظا منها على مكتسباتها، وجريا منها وراء شهواتها اللامتناهية. ويتجلّى لنا ذلك في أمرين اثنين، أوّلهما الظّلم والاستبداد، وثانيهما المصادرة والنكبة.
1- الظلم والاستبداد:
إن أول ما يلفت انتباهنا ونحن نتحدث عن مظاهر الظّلم والاستبداد، أننا إزاء مجتمع مليء بالمتناقضات، تحكمه أهواء وتشدّه نزوات، وتسيّره الفتن والاضطرابات، الأمر الذي دفع بالحكام إلى انتهاج سياسات طبعتها القسوة وميّزها الانحراف عن العدالة الاجتماعية، وكلّ حكومة اتخذت التعسّف، والاستبداد، والقهر سبيلا في حكمها، فإنها "تكون معرضة للانهيار والزوال مهما كانت قوتها وجبروتها") (، لذلك عدّ ابن خلدون "الظّلم من أرذل الأخلاق القاتلة والمبيدة للعمران") (. يقول ابن خفاجة حول هذا المعنى:
فَمَا يَسْتَقِيمُ الأمْرُ والمُلْكُ جَائِرٌ وهل يَسْتَقيمُ الظِّلُِّّّ والعُودُ مُعْوَجُّ) (
وإذا رجعنا إلى مصادر الحقبة محلّ الدراسة بالتصفّح، فإننا نجد الحكّام والساسة "أبعد ما يكونون عن الرحمة والشفقة") ( وذلك "لانعدام الاستقرار السياسي وانتشار الفوضى الاقتصادية وانهيار القيم الأخلاقية حتى أضحت القسوة سمة العصر". ) (
فالمعتضد بن عبّاد "قطب رحى الفتنة ومنتهى غاية المحنة") ( وكل المصادر لا تذكره إلا مقرونا بالقسوة والتسلط وسفكه للدّماء، إذ لم يزل "يعمل على قطع منافسيه واحدا واحدا، فمنهم من قتله صبرا، ومنهم من نفاه عن البلاد ومنهم من أماته خمولا وفقرا". ) (
فمن أبشع صور الاضطهاد ما أقدم عليه من جرائم وتنكيل بأقرب الناس إليه، فقد "استهل حكمه بقتل "حبيب" وزير أبيه") ( و"سفك دماء أخيه، وعمّه، وابن عمّه") (، ثم عرّج على ابنه إسماعيل "فقتله على إثر تآمره عليه") (
ومن أعنف مظاهر قسوته، خبر حديقة "الجماجم المثمرة من رؤوس أعدائه والمزيّنة بهامات ضحاياه") (، وكان يقول فيها: "في مثل هذا البستان فليتنزّه". ) (
وقد ذكرت المادة الشعرية أسماء القبائل التي ينتمي إليها ضيوف المعتضد، مصّورة ما نالهم من اعتقال وهلاك.
قال ابن حصن:
به دَمَّرَ الرحمنُ دُمَّرَ وانْطَوَى بَنُو يَفْرُنٍ أَعْدَى الأَعَادِي وَأمْرَقُ
ومِنْ آلِ يَرِنْيَانَ أَنْكَثُ أُمَّـٍّة لِعَهْدٍ ومِيثَاقِ وأغْوَى وأَفْسَـقُ
ثَلاثَـةُ رَهْطٍ بَدَّدَ اللهُ شملَهُمْ أَثَافِيَ كانوا للفَسادِ فَفُرِّقُـوا) (
وقد وصل به الشذوذ إلى أنه كان "يأمر بإحضار هذه الرؤوس كلّما لعبت الخمرة بعقله") (، وهذا إنما يدل على حالة مرضية لا شك فيها. ولم يكتف بذلك، فقد ملك إلى جانبها "خزانة في قصره أودعها هام الملوك الّذين أبادهم") (. ويقول بذلك مصرّحا لمّا فتح رندة:
لَقَدْ حُصِّلْتِ يا رُنْـدَهْ فصِرْتِ لمُلْكِنَا عِقْـدَهْ
فكَمْ مِنْ عِـدَّةٍ قتلت مِنْهُـمْ بعدهـا عِدَّهْ
نَظَمْتُ رؤوسَهمْ عِقْدًا فحَلَّتْ لَِبّـةُ السُّـدَّهْ) (
ولم يسلم من بطشه أصحاب البلاط من شعراء وندماء وزهّاد، كأبي حفص عمر بن الحسن الهوزني، "الشاعر الفقيه الذي حرّكته النخوة الإسلامية، فتوجّه واعظا المعتضد محرضا إيّاه على الجهاد، فنال جزاء جرأته أن قتله بيده، ودفنه بثيابه وقلنسوته، وهيل عليه التراب داخل القصر من غير غسل ولا صلاة" ) (.
أما باديس بن حبوس أمير غرناطة، فكان يضرب به المثل في "القسوة والبطش وسفك الدّماء".) (وعلي بن حمود الذي حاول "ضرب الناس ببعضهم البعض، فقد توصّل إلى أعيانهم بقول من شرارهم ففتحوا لهم أبوابا من البلايا أهلكوا بها الأمة، وتقربوا إليه بالسعاية فيهم، وصار شطر الناس أشراطا على سائرهم، قلّما تلقى أحدا إلاّ بوكيلين عليه.. وأظلمت الدنيا وأبلس أهلها وغشيهم من الله ما غشيهم") (وكذلك هذيل بن رزين صاحب شنتمرية الشرق فقد "غرق في لذاته وشهواته، وصارت حياته صماء عن كلّ عمل خير، بل بلغ به الجهل والفظاعة أن قتل أمّه بيده") ( .
وقد وجدت هذه التصرفات من الملوك من يبرّرها من الشعراء المتزلفين، فاعتبروا المعارضين أعداء لأنهم ضربوا عرض الحائط بكل القيم والمبادئ، فكان العقاب من جنس العمل.
قال ابن زيدون مخاطبا المعتضد:
وَنهْجُكَ سُبْلَ الرُّشْدِ في قمْعِ مَنْ غَوَى وعَدْلُكَ في اسْتِئْصَالِ مَنْ جَارَ واعْتَدَى) (
وقال ابن عمّار:
نَكَثَ اليمينَ وحادَ عن سُنَنِ التُّقَى وقَضَى على الإِقْبَالِ بالإدْبَارِ) (
وتبريرهم هذا لا يأخذ دائما الصبغة الأخلاقية فقط، بل يذهبون إلى أبعد من ذلك، فيرمونهم بالبغي ليتجسد فيهم حكم الفئة الباغية في قوله تعالى: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي.) (
قال ابن المعلّم :
مَدُّوا إِليْكَ أَكُفَّ البَغْيِ فانجَذَمَتْ وقَدْ خَلَتْ مِنْهُمُ بالسيفِ أَقْفَاءُ) (
فقتالهم ثم موتهم إنما هو النّصر بعينه, يقول ابن الباجي:
فُتُوحٌ يمُوتُ الحاسدُونَ شَجًى بهَا فَلَيْتَ حليفَ البَغْيِ يحْيَا فَيُخْبِرُ) (
كما أن الأندلس لم تنعم في دولة علي بن يوسف لأن تعصّبه الشديد للدّين، واستمساكه بمذهب مالك جعله آلة بيد الفقهاء، "فساد التعصّب، وكثرت الوشايات، وخنقت حرية الفكر") ( فوصفوا بأنهم "أجلاف بـدو") (، يقول الأعمى التطيلي:
فَشَا الظُّلْمُ واغْتَـرَّ أشْيَاعُـهُ ولا مُسْتَغَاثٌ ولا مُشْتَـكَى
وسَـادَ الطُّغَــامُ بِتَمْوِيهِهِمْ وهل يَفْدحُ الرُّزْءُ إلا كَـذَا
وطالتْ خُطَاهُمْ إلـى التُّّرَّهاتِ ألا قَصَّرَ اللهُ تـلكَ الْخُـطَى
ومَاذا بحِمْصٍ من المُضحِكاتِ ولكِـنَّهُ ضَحِكٌ كالبُكَـا) (
وقد أكّد علي بن يوسف سوء الأوضاع في رسالة كتبها عنه أبو بكر محمد بن يحي الشلطيش المعروف بابن القابلة، جاء فيها: "أما بعد، فإن الله تعالى يقول: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ( ، وأنه قد عمّت الرزايا والمصائب وشملت الفتن المشارق والغارب ... ".) (
ولعلّ الفقهاء أبرز عناصر المجتمع المرابطي قسوة وتطاولا، فقد أشرت سابقا إلى المكانة الراقية التي حظي بها هؤلاء، وإلى ما تمتعوا به من نفوذ وسلطان، حتى أصبح زمام الحكم في أيديهم، وذلك بمحاولتهم "التدخل في توجيه الاختيارات الكبرى للدولة حسب ما تقتضيه مصالحهم بالدرجة الأولى" ) (.
فقد أفتوا بحرق كتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، وقد استجاب لهم عليّ وأحرق بأمره سنة 503هـ. والسبب الأصلي في إحراقه يعود إلى ما يكشفه هذا الكتاب من تسخير الفقهاء للدين كوسيلة للوصول إلى أغراضهم الدنيوية الزائلة، وبذلك اعتبر هذا التصرف أكبر تعسّف في حق عالم زاهد متبتل كأبي حامد الغزالي.
ويذكر المواعيني في مخطوطه ريحان الألباب أن المرابطين انتهجوا سياسة الظلم بعد انغماسهم في الحضارة والمدنية: "وملك الملثمون بلاد الأندلس في ظل وقعة الزلاّقة مدّة وجاهدوا أطراف العدو وصدرا من دولتهم، ثم أدبروا فأخلدوا إلى الرّاحات والبطالات، وفساد الأعمال، والنّيات، وكثر ظلمهم، وحيفهم." ) (
ولمّا ولي أبو حفص إشبيلية سنة 511هـ، كان جملة ما قام به أن "جرّ أبا مروان بن أبي العلاء بن زهر إلى السّجن، وجلس الأمير أبو حفص عشيّة ذلك اليوم في رحبة القصر، فاستحضر من حاشية ابن زهر رجلين متلبسين بأمره، فأمر بضرب أعناقهما وطيف برمحه على أسواق المدينة") (
ولمّا ولي أبو عمر يناله غرناطة، "استدعى فقهاء وعلماء من أهل جيّان فلما حضروه أمر بسجنهم ظلما واعتداءً") (
وبعد أفول نجم المعتمد، دخل المرابطون إشبيلية، فعاملوا أهلها بما يتنافى ومبادئ الإسلام، "فانتهكوا الحرمات، وقتلوا خلقا كثيرا لم يبقوا على سيّد ولا عبد، وسلبوا الناس ثيابهم، فخرجوا من مساكنهم يسترون عوراتهم بأيديهم وسبيت المخدرات، وانتهكت الحرمات" ) (
وربما تعد محنة المعتمد من أفضع مظاهر القسوة والجفاء في حق ملك أتاح لهم فرصة الدخول إلى الأندلس، والتعرف على خيراتها ولم يتورّعوا عن قتل ابنه الراضي غدرا، وتشريد بناته حتى أصبحن يغزلن للناس بالأجرة.
ومن مظاهر قسوتهم ما أقدم عليه القائد المرابطي سير بن أبي بكر عند دخوله دولة بني الأفطس في محاولة ضمها إليه، إذ أخذ العهد على نفسه أن يترك للأمير أن يرحل بماله وأهله في أمان، "لكن ما كاد المتوكّل يغادر المدينة، ويحتلها المرابطون حتى أرسل قائدهم في طلبهم سريّة من الفرسان أدركته وأسرته") (وقتل المتوكّل بعد أن ذبح أبناءه الفضل والعبّاس بين يديه.
ومن مظاهر ظلمهم واستبدادهم، استنزافهم لأموال الرعية تحت اسم ضرائب معظمها غير شرعية.
ويحدثنا ابن حيان عن الصقلبين مبارك ومظفر أميري بلنسية وشاطبة، فيقول: "أنهما كانا يستخرجان الجباية من رعيتهما بالعنف من كل صنف حتى تساقطت الرعية وجلت أولا فأولا، وخربت أقاليمهم آخر"( ) ويؤكّد ابن عذاري ذلك بقوله: "وبلغت جبايتهما لأوّل ولايتهما إلى مائة وعشرين ألف دينار في الشهر، سبعون ببلنسية، وخمسون بشاطبة، يستخرجانها بأشدّ العنف من كلّ صنف حتى تساقطت الرعية") (.
وتذكر نوازل الونشريسي المؤرخة سنة 492هـ، عن أحد الثوار في أواخر عصر دويلات الطوائف ويدعى سعيد بن ريفل، "ثار بحصن شقورة واستولى عليه وعلى جميع جهاته عدّة أعوام، وخلال ذلك اصطنع كل مظاهر العسف والظّلم مع الرعية، وأثقل كاهلهم بالمكوس والضرائب الباهضة". ) (
وهذا نموذج لسطوة حكام الأندلس الذين فرضوا على الرعية ضرائب باهضة استغلوها في سد ثغرات ثلاث على حد قول إحسان عبـاس) ) وهي: الضريبة السنوية، كان يتقاضاها الأذفونش ومقدارها خاضع للمساومة متأثرا بحال الرضا والغضب.
والضريبة المفروضة لدفع مرتبات الجند وترتفع كلما كانت الحروب والفتن دائرة بين الأمراء، أما الثالثة فتتعلق بما كان ينفقه هؤلاء على ألوان الترف.
وقد قاسى الشعب الأندلسي في ظل حكمهم "كثيرا من ضروب الاضطهاد والظّلم") (، حتى ساءت حال الرعية وبلغ الحال بالنّاس أن "أكلوا البقل، والحشائش، ولبسوا الجلود، والحصر وفرّ أكثرهم عن قـراهم " ( (مما دفع بالصالحين أن يبتهلوا إلى الله ليخلصهم من "هؤلاء الظلمة"، فهذا ابن حزم رافع يديه إلى السماء يقول: "اللّهم إنا نشكو إليك تشاغل أهل الممالك من أهل ملتنا بدنياهم عن إقامة دينهم، وبعمارة قصور يتركونها عما قريب عن عمارة شريعتهم اللاّزمة لهم في معادهم ودار قرارهم، وبجمع أموال ربما كانت سببا في انقراض أعمارهم، وعونا لأعدائنا عليهم عن حياطة ملتهم".) (
في حين سلك الشعراء المتزلفون سبيل تبرير فرض هذه الضرائب فساندوا الملوك واعتبروها أداة لحفظ الدين، وتجنّب بطش ألفونسو. فحسان ابن المصيصي يهوّن على المعتمد دفع الإتاوات لأنها في نظره تدفع لإطلاق سراح المسلمين. قال:
ولم تَطْوِ دونَ المسلمينَ ذَخِيرةً تهِيـنُ كِرامَ المنْفِسَاتِ لِتَكْرُمَا
تحيِّلُ في فكِّ الأُسَارَى وإنّمـا تُعَـاقْدُ كُفَّارًا لتُطْلِقَ مُسلِمَـا
وما كنتَ ممن شَحَّ بالمالِ والقَنَا فتَكْنُزَ دِينـارًا وتُرْكِزَ لَهْذَمَـا
فتُرْسِلَهُ للصُّفرِ أصفرَ عَسْجَدًا وإِنْ خالفُوا أرْسلْتَ أبْيَضَ مِخْذَمَا
ويبقى هذا التبرير غير مقبول لأن الإتاوات التي كان يدفعها ملوك الطوائف وعلى رأسهم المعتمد، كانت بمثابة جزية مفروضة عليهم.
أما ابن اللبانة فهو يعتبر تلك الجزية سياسة حكيمة غايتها حماية الدّين ونصرته. يقول:
في نُصْرَةِ الدّينِ لا أُعْدِمْتَ نُصْرَتَهُ تَلْقَى النَّصارَى بما تَلْقَى فتَنْخَدِعُ
تُنِيلُهُم نِعَمًـا في طَيِّهـا نِقَـمٌ سَيَسْتَضِرُّ بها مَـنْ كان يَنْتَفِـعُ
وقلَّ ما تَسْلَمُ الأجسَامُ مِنْ عَـرَضٍ إذا تَوالى عَلَـيها الرِّيُّ والشِّبَـعُ
لا يخْبِطُ الناسُ عَشْوَا عندَ مُشكِلةٍ فأنتَ أَدْرَى بما تأْتي وما تَدَعُ) (
وضيّق ملوك الطوائف على أهل الأندلس بما "فرضوا من ضرائب فادحة") (، وقد ابتدعوا جزية على رؤوس المسلمين سمّوها قطيعة وتؤدى مشاهرة، وضريبة أخرى على أموالهم من الغنم، والبقر، والدواب، والنحل رسوما تدعى القبالات تؤدى على ما يباع في الأسواق. وتم "تكليف اليهود بجباية هذه الأموال".) (هذا بالإضافة إلى ما أسماه ملوك الطوائف "بالمعونة يفرضونها متى شاؤوا". ) (
ورغم الاستياء الكبير الذي شاع في دول الطوائف بسبب الضرائب الباهضة المرهقة، لم يبذل الملوك "أيّة محاولة لتبرير سياستهم المالية والجبائية بإسنادها على أساس شرعي". ) (
وكانت هذه الأوضاع سببا في استدعاء المرابطين إيثارا للحرية، "ولما شاع عن المرابطين من ردّ للمظالم، وقطع للمغارم". ) (
فتعالت أصوات الفقهاء ملحّين على يوسف بن تاشفين لإنهاء سياسة ملوك الطوائف التعسفية في المجال الجبائي، وذلك "بتحريم الضرائب المناقضة للمبادئ الإسلامية". ) (
لقد رأى الأندلسيون في المرابطين ذاك الفارس الهمام المنقذ لهم من الظّلم والطّغيان. فهل حقا قضى المرابطون على تلك الضرائب اللاّشرعية ؟ ثم هل التزموا بهذه السياسة طوال حكمهم أم أن هناك ثمة تغيير؟.
تشير المصادر إلى أن المرابطين "التزموا الشرع فأخـذوا زكـاة العشـر ، والغنائم، وجزيات أهل الذمة".) (
يقول ابن خلدون إن الدولة" سواء قامت على سنن العصبية أو الدين تكون قليلة الضرائب كثيرة الجباية في أول عهدها لأن الرعايا ينشطون للعمل فيكثر الاعتمار، وعندما تنقل الدولة إلى الترف تكثر الضرائب". ) (
إن الناظر في مقولة ابن خلدون هذه سيتبين له أن السياسة الجبائية التي ينتهجها الحكام في بداية دولتهم لا يمكنهم الإلتزام بها إذا ما انتقلت إلى الدولة مظاهر المدنية والترف.
فإذا كنا نعلم أن المرابطين أصحاب دعوة وجهاد، ودولتهم تقوم على نظام المغازي، اكتفوا خلالها على ما استوجبه الشرع من ضرائب، فهل حادوا عن هذه السياسة عندما انغمس أمراؤهم في ألوان الترف ؟
حقيقة أن المرابطين في بداية عهدهم التزموا الشرع، ولم يفرضوا إلا ما جاء به الكتاب والسنة، "وألغوا ما عدا ذلك من الضرائب سواء بالمغرب أو الأندلس") (.
وتقول إحدى روايات ابن أبي الزرع إن الفترة المرابطية "لم يفرض فيها خراج، ولا معونة، ولا تقسيط، ولا مكس، ولا وظيفة لأي بادية، ولأي حاضرة") (.
وهذا قول ينطبق على الفترة الأولى للدولة المرابطية، حيث لم يخرجوا عن بداوتهم، بينما تذكر بعض الروايات أن الضرائب فرضت في عهد علي بن يوسف لما ثار عليه ابن تومرت؛ بينما اكتفى الدارسون المحدثون أن قالوا "بأن الضرائب كانت قليلة") (.
إن المسلَّم به في مصادرنا أن الدولة المرابطية عاشت مرحلتين متباينتين، الأولى بزعامة يوسف بن تاشفين، وتمثل حياة التقشف والعصبية البدوية، ثم مرحلة ابنه علي أو ما نطلق عليه اسم الجيل الثاني، والتي تمثل حياة الترف والمدنية.
وباستطلاع رسالة كتبها الطرطوشي إلى يوسف بن تاشفين يتبين لنا أن الترف بدأ مع أواخر إمارة يوسف ابن تاشفين إذ جاء فيها: "ولقد بلغني أنك استأثرت على المسلمين بالحظّ الوافر من حطام الدنيا وزخرفها، فلبست النّاعم، وأكلت الّلين وتمتعت بلذاّتها وشهواتها") (. فدفعه ذلك إلى "فرض ضرائب تبدو معتدلة وغير مجحفة") (، من ذلك محاولته فرض ضريبة المعونة، "وعارضه فقيه ألمرية وقاضيها ابن الفراء إلا إذا حلف في حضرة العلماء بأن بيت المال خال من الدرهم ولا يملك هو شيئا". ) (
أما في عهد علي فالحال اختلف حيث اشتطت السلطة في فرض أصناف من الضرائب على إثر أزمة مالية خانقة تعرضت لها الدولة، فأبواب النفقات كثيرة، وعمليات الجهاد مستمرة، حتى وإن أخذت شكلا دفاعيا بعد إقليش، ثم مجال توطيد الحصون والقلاع تطلب مداخيل كثيرة، وأخيرا الثورات الداخلية التي استنزفت أموالا طائلة، كل هذه الثغرات تطلبت تضييق الخناق على الرعية لأجل سدها.
فظهرت أنواع من القبالات والضرائب على السلع لم تكن موجودة من قبل؛ تلك الضرائب والمكوس هاجمها فيما بعد ابن تومرت في إحدى رسائله سنة 543هـ، مشيرا إلى ألوان الظلم التي كانت موجودة أيام المرابطين ( )، جاء فيها: "... لقد ذكرنا في أمر المغارم والمكوس والقبالات وتحجير المراسي وغيرها ما رأينا أنه أعظم الكبائر جرما وإفكا ..." ) (.
ويذكر الإدريسي أن أكثر المصنوعات لمدينة مراكش فرضت عليها "القبالات مثل سوق الدخّان، والصابون، والصفر، والمغازل، وكانت القبالات على كل شيء يباع دقّ أو جلّ") (، ولاشكّ أن هذه الضرائب قد فرضت على الأندلس "فشملت المحاصيل الزراعية، والمصنوعات، وغيرها من الصادرات والواردات، ولم يستثن منها شيء. " ) (
الأمر الذي دفع ابن عبدون إلى اعتبار المتقبلين شرّ أهل الأرض) ( إذ أنهم اشتطوا في فرض المغارم باسم السلطان، فاعتبرهم ابن عبدون "فساقا، أكلة سحت، أشرار سفلة، لا خوف ولا حياء ولا دين، ولا صلاة لهم إلا طلب الدنيا، وأكل السحت والربا") (. ذلك أن الدولة لم تكن تعطي المتقبل راتبا عن عمله، وإنما تجعل أجره على أهل الزراعات، والأموال لذلك فإن المجال "واسع للتعدي، والشطط في تحصيل الأعشار وتناول الرشاوي خصوصا وأن هذه القبـالات لم تكن محددة بمبلغ معـين" ) (
ومنها ضريبة التعتيب أو المعونة التي فرضت سنة 519هـ على العامة "لإقامة وترميم الأسوار بجميع البلاد بناء على نصيحة القاضي أبي الوليد بن رشد لضرورة حماية أسوار المدن من هجمات النصـارى المتوالـية") (
وهذه الضريبة أيضا لم تسلم من الغش والتدليس. إذ تذكر بعض الروايات أنه "بعدما تم جمع المال من قبل رعايا غرناطة لإصلاح أسوارها قدم للسهر عليـه رجل من بني نجبة، غير أنه تلاعب به واختلس قدرا كثيرا منه") (، ولذات السبب "عزل الأمير أبو عمر يناله عن غرناطة".) (
وكان استياء العامة من دفع هذه الضرائب شديدا، فقد رجم أهل قرطبة قاضيهم ابن المناصف بالحجارة فأمر بالقبض على المشاغبين وإلقائهم في السجن، وكان من بينهم الشاعر ابن قزمان.
كما ثار أهل إشبيلية على قاضيهم أبي بكر بن العربي عندما" طالبهم بتقديم جلود أضحياتهم لترميم أسوار المدينة بعد السيل الجارف الذي أتى على جانب منها". ) (
كما أصبح بواب المدينة بالأندلس يفرض على المسافرين والتجار شبه ضريبة حتى صار ذلك كالقبالة، بل أثقل، وتسببوا في أكل أموال الناس بالباطل، "بل أصبح المتقبل بواب المدينة، يتساهل في عدم الإبلاغ عن الأشياء المسروقة التي تباع خارج الأسوار". ) (
إضافة إلى ذلك، فرضت ضرائب على "دواب النقل بل حتى على أضحية العيد") (، ومن المكوس الغريبة التي فرضت كذلك على العامة "ضريبة المرور على الأنهار") (، والأغرب ما كان يدفعه الناس زمن الفتنة في أواخر العهد المرابطي "ضريبة اللهو، وضريبة الوفاة". ) (
فقد فرض أمراء الفتنة الغرامات والضرائب المختلفة على رعاياهم كل في إمارتهم، بعد أن توقفت أوجه النشاط الاقتصادي، ولم يجدوا ما يدفعونه لأرزاق الجند، والإتاوات التي فرضها النصارى عليهم "واشتطوا في تحصيل المال ومصادرة الذخائر فبرم بهم رعاياهم وعزلوهم") (
فابن الخطيب يقول عن ابن مردنيش أنه "استكثر من القبالات، ورسم بدائع من المكوس، وقرر على المواشي عددا يلزم المئين، وفرض على الأدم والبقول والحبوب معادن ثقيلة تقارب أصول الأثمان". ) (
وقد أوردت هذه النماذج للدلالة على الظّلم الذي كان يمارسه هؤلاء الحكام على الرعية، بينما اختلفت آراء الفقهاء في شرعية فرض مثل هذه الضرائب، منهم من أجازها لمصلحة البلاد وحاجة بيت مال المسلمين لتقوية مجابهة الخطر الخارجي ومنهم من رفض الإفتاء بصحة أخذ المعونة لمخالفتها الشرع. وهكذا فقد أدّى الظلم في جمع الأموال من الرعية وتحصيلها بأيّ وسيلة ممكنة إلى قول أحد المعاصرين: "أنّه ليس في الأندلس في ذلك الوقت درهم حلال ولا دينار طيّب") (.
2- المصادرة والنكبة:
سبق وأن أشرت في حديثي عن الطبقة الحاكمة في المجتمع الأندلسي إلى الثراء الفاحش الذي تمتع به أفرادها، ورغبتهم المتجددة لأجل الاستزادة حفاظا منهم على مظاهر الملك، مستعملين كل السبل الممكنة لتحقيق ذلك، فمن مظاهر تردي السياسة الأخلاقية للحكام، استعمالهم أسلوب المصادرة والنكبة.
فالطبقة الأرستقراطية من حكام، وأمراء، وقضاة، وفقهاء، ووزراء، وشعراء وغيرهم غنموا أموالا طائلة وأراضي وإقطاعات كثيرة، وتمتعوا بمظاهر الفخامة والملك، وارتقوا في المناصب في ظل دول مفككة اجتماعيا، ومنهارة سياسيا، وهذه الأوضاع والهزات قد تسببت في تغيير الوضعية الاجتماعية لهؤلاء، لذلك يؤكد بوتشيش أنه "لم يكن غريبا في ظل مجتمع يتميز بعدم استقرار الوضعية الاجتماعية للفرد وانعدام الثقة أن تصبح الطبقة ذاتها غير طبيعية في تطورها". ) (
لذلك غالبا ما كان يلجأ الحكام إلى "مصادرة ممتلكات منافسيهم أو غيرهم من أغنياء المدينة الكبار بعد اتهامهم بشتى التهم") ( كوسيلة يحافظون بها على ملكهم وضمان عدم المنافسة من جهة، وفي زيادة ثرواتهم من جهة أخرى.
ولنا في سلوك المعتضد وأبيه شواهد كثيرة، "فقد أوقعا بجلّ أغنياء مقاطعتهما وأشرافها، وصادرا أملاكهم وأضافاها إلى ثروتهما الضخمة، فزادا من سطوتهما وشدّدا نفوذهما") (. ومن العائلات الوجيهة التي أدركت قسوة المعتضد الذي ما انفك يشك في ذوي الجاه باعتبارهم منافسين أقوياء، عائلة أبي عامر بن مسلمة الذي "فضّل الابتعاد عن البلاط والاكتفاء بحياة مريحـة") ( ثم ابن زهر الذي تعرض "لسطوة المعتضد، فاغتصب منه ضيعة "مجشر", ولم يتورع حتى عن أموال العميان ومتوسطي الحال من عامة الناس بل ضمها إلى ماله ليكاثر بها أقرانه من ملوك الطوائف وليدفعها ثمنا لملذاته وشهواته") (، أما المقتدر بن هود حاكم الثغر الأعلى الأندلسي "فقد أجبر رعيته على دفع المال له، فلما اعترض عليه أحد الصالحين قتله") )، وهذا دليل على استيلاء ملوك الطوائف على أموال الناس بالباطل، ومصادرة أملاكهم دون وجه حق "مستغلين سطوتهم، وجبروتهم وعدم وجود من يردعهم من القضاة، والفقهاء، والعلماء، وأهل الفتوى الذين لا يخشون في الحق لومة لائم") (.
وقد تفطن الباجي إلى هذه الظاهرة، فأشار إليها في وصيته لابنيه قائلا: ".. وإياكما من الدنيا وحطامها، فإن الجمع لها والاستكثار منها مع ما فيها من الشغل بها، والشغب بالنظر فيها يصرف وجوه الحسد إلى صاحبها، والطمع إلى جامعها، والحنق على المنفرد بها، فالسلطان يتمنى أن يزل زلة يتسبب فيها إلى أخذ ما عظم في نفسه من ماله." ) (
ولأجل تحصيل هذه الأموال، يلجأ الأمراء أحيانا إلى "إجبار المالكين الصغار على ترك أراضيهم بمختلف الوسائل") (, وقد يتعرضون برفضهم إلى ضغوطات كثيرة، كما يلزمونهم بدفع ضرائب باهضة ليدب اليأس إلى نفوسهم فيضطرون مكرهين إلى ترك أراضيهم، والاستجابة إلى مغتصبيهم.
وانتهج المرابطون السياسة نفسها، إذ كلما شعر الأمير المرابطي بفراغ بيت المال واحتاج إلى النفقات لتحقيق مشروعاته التوسعية، لم يجد غضاضة في "مصادرة خدام الدولة من وزراء، وكتاب، وولاة") (, قد ظهرت أيام علي بن يوسف "قضية مصادرة أملاك الأمراء المرابطين المغضوب عليهم، هم وحاشيتهم") (، أو "العمال الخائنـين") ( أو "المتهمين بالثورة على السلطان". ) (
وقد أكد ابن خلدون) (أن المصادرة إنما تكون في مرحلة هرم الدولة حين يفرغ بيت المال، فيتحايل الأمير في إيجاد أيّة زلة للانقضاض على أموال الشخص المصادر.
وفي زمن الفتنة التي أعقبت سقوط المرابطين، وما نتج عنها من اضطراب للأمن، كثر الاستغلال والتعدي على الأراضي وقد زخرت كتب النوازل بقضايا الغصب) (، وبيع المضغوط) ( ومسائل الرهن) (، وبيع الغبن. ) (
لهذه الضغوطات لجأ ضعاف الناس إلى "بيع أراضيهم بسعر زهيد، وانتهز هذه الفرصة بعض الأشخاص فاشتروا أملاك الكثيرين") (. ومن النكبات التي تعرض لها أهل الأندلس تحت حكم دول مستبدة ظالمة، إدخالهم السجن، فقد تعددت طبقات السجناء، إذ منهم الوزراء، والشعراء، وكبار رجال الدولة من حجاب، وقضاة، وأصحاب مناصب إدارية مختلفة، و"منهم الحكام أنفسهم في بعض الأحيان". ) (
كما اعتبر ذمّ الحكام من الأسباب القوية المؤدّية إلى السجن والنكبة، فقد سجن "عبد الملك بن غصن الحجاري من قبل المأمون بن ذي النون لتعرّضه له بالهجاء في بعض شعره فنكبه شرّ نكبة وسجنه" ) (.
ولما حكم ابن عباد قرطبة، بعد بني ذي النون، "عزل قاضيها مخلد واعتقله") ( ولعل سبب ذلك نصرته لبني ذي النون أيام حكمهم ثم سجنه ونكّل به شرّ تنكيل.
ومن الوجهاء الذين نكبوا، عبد الملك بن زهر الذي كان "وجيه بلده جليل القدر في أهله نبيه السلف خطيبا، عاند الملوك والأمراء") (، أدركته مطالبة عند أبي الحسن علي بن يوسف،"كانت سبب اعتقاله بسجن مراكش مدة". ) (
ومن أشهر النكبات نكبة الوزير ابن عمار في حكم المعتمد بن عباد الذي حدثته نفسه أن يستبد بمرسية بعدما استخلصها من بني طاهر بأمر المعتمد، فأقام بها مراسم الملك ودعا لنفسه بها، ثم انتفضت عليه العامة والجند وهرب يحتمي ببني هود لكنهم أخرجوه فلازال يتقلب في الأرض حتى وقع في حصن شقورة فقبض عليه صاحب الحصن وقيده حتى أرسل المعتمد من يستلمه، "فكانت نهايته على يد نديمه المعتمد بأن ضربه بيده ولم يزل يضربه حتى برد ووري بقيوده". ) (
ومن أشهر النكبات، نكبة ملوك الطوائف على يد المرابطين، ولعل أبلغهم أثرا في النفس قصة "العزيز الذي ذلّ" المعتمد بن عباد، استطاع المرابطون خلالها الاستيلاء على الأندلس وتوحيدها تحت حكمهم، ومصادرتهم لأملاك الأمراء ونفائس الذخائر في قصورهم, تذكر المصادر أن قصور الأمير عبد الله عندما استولى على دولته يوسف بن تاشفين "كانت تحوي من الأموال والنفائس أكثر من أي ملك آخر، وكان من جملة المجوهرات سبحة فيها أربعمائة جوهرة قدرت كل واحدة بمائة ألف دينار، بالإضافة إلى الثياب والأثاث". ) (
3- العزل عن الوظائف:
ومن الأساليب القمعية المنتهجة في الدولة المرابطية، أسلوب العزل عن الوظائف الذي تعددت أسبابه، فقد كان يمارس على من بقي على ولائه للعباديين، أوبسبب وشاية، وأحيانا نتيجة تنافس نساء البلاط، وفي كثير من الأحيان يعزل القضاة بسبب "إقامتهم الحدود والسير على جادة الحق". ) (
وقد أحسن السميسر التعبير عن هذه الظاهرة بقوله:
النَّاسُ مِثْلُ حُبَـابٍ والدهْرُ لُجَّـةُ مَـاءِ
فَعَـالِمٌ في طُفُــوٍّ وعالِمٌ في انْطِفَـاءِ) (
وقول ابن خفاجة:
ما لِلزَّمانِ يجُـورُ في أبْنَائِـهِ حُكْمًا ويَرْمُقُهُمْ بعَيْنِ العَائِبِ
فيَحُطُّ عُلُوَّهُمْ ويَرْفَعُ سِفْلَهُمْ فَكَأنّهمْ قلَمٌ بيُمْنى كَاتِـبِ) (
ومن رسائل العزل عن الوظائف، رسالة علي بن يوسف إلى أحد ولاته جاء فيها: "وقد عزلناك عزلة تحط من قدرك وتخمل ذكرك... ") ( هذا نص في غاية الأهمية، إذ يتجلى لنا من خلاله تغيّر الوضعية الاجتماعية لأولي الأمر بمجرد عزلهم عن مناصبهم الرفيعة، فيخمل ذكرهم وتنحط مكانتهم, وفي عدم الاغترار بالمنصب الرفيع يقول حبلاص الرندي:
ولا تَفْرَحَنْ بولايةٍ سُوِّغْتَها فالثَّوْرُ يُعْلَفُ أشْهُرًا كيْ يُذْبحَا) (
وفي هذا إشارة إلى عدم ثبات الوضعية الاجتماعية للفرد في مجتمع مليء بالمتناقضات، فقد ذكرت بعض المصادر انحراف السلطة على مستوى الأخلاق السياسية في عزلهم لقضاة يقيمون الحق، ويسلكون سبل العدل والمساواة, فقد ذكر القاضي عياض عزل قاضي غرناطة لتوخيه العدل في أحكامه: "فنهض منها وتقلد خطة قضائها على المعتاد من شيمه السنية وأخلاقه المرضية، مشكورا عند جميع الناس، لكن تاشفين ضاق به ذرعا وغض لموافقته له في الحقائق وصد أصحابه عن الباطل، وخدمته عن الظلم، وتشريدهم عن الأعمال، فسعى في صرفه عن قضاء غرناطة". ) (
وهذه الممارسات اللاأخلاقية جعلت من القضاة النزهاء يفضلون الاستعفاء من خدمة السلطان، فالقاضي أبو عبد الله بن عيسى "بقي في قضائه إلى أن رأى ما لا يعجبه فاستعفى". ) (
وقد عددت المصادر ذكر قضاة عزلوا عن مناصبهم، وآخرين ممن طلبوا الاستعفاء "هروبا من ضغط السلطة التي تحكم هواها في سنّ القوانين والنظم، واحتجاجا منهم على الفوضى السياسية، والدينية، والأخلاقية التي كان يعيشها الحكام". ) (
وهكذا لم يبق سوى قضاة معظمهم من المتزلفين الذين "سايروا هوى السلطة حفاظا على مصالحهم بدل السير في الطريق القويم") (، الذين ما فتئوا يبرّرون المواقف الاستبدادية للحكام على أنها وسيلة للحفاظ على الدين والدولة.
فقد بينا سابقا كيف أن الفقهاء وضعوا أنفسهم في خدمة الأرستقراطية الحاكمة وسندوها عند العامة، فلم يجدوا مناصا من تبرير سلوكاتهم المجحفة حتى اتّهمهم ابن حيان "بالتواطؤ مع الأمراء والسكوت عن سوء أعمالهم") (، وهو يصفهم في مقام آخر بقوله: "والفقهاء أئمتهم صموت عنهم........وقد أضحوا بين آكل من حلوائهم وخابط في أهوائهم". ) (
لهذا أضحى الفقهاء في زمن الانحلال، والفوضى الأخلاقية، والاجتماعية، والسياسية أكبر عضد للأمراء في تبرير طغيانهم وظلمهم إذ "كانوا يضعون تحت خدمة الظلمة الفسّاق فتاوى مؤيّدة للظّلم، والجور، والاستغلال، ومبيحة للدّس، والمكر". ) (
يقول ابن حزم في هذا: "لا يغرّنكم الفسّاق والمنتسبون إلى الفقه اللاّبسون جلود الضّأن على قلوب السباع، المزينون لأهل الشّر شرهم، الناصرون لهم على فسقهم." ) (
ومع ذلك لم يتورعوا عن أخذ الرشوة واختلاس أموال الرعية. يقول ابن زقاق:
قَاضٍ يجُورُ على الضَّعِيفِ ورُبَّما لَقِيَ القَوِيَّ يمَثِّلُ حِلْمِ الأَحْنَفِ
لَعِبَتْ بِطَلْعَتِهِ الرُّشا لَعِبَ الرَّشَا بِفُؤادِ خَفَّاقِ الجَوانِحِ مُدْنِفِ) (
كما أورد ابن عبد الملك قصيدة لأبي الطراوة في فقهاء مالقة:
إذا رَأَوْا جمَلا يَأتي عَلى بُعُـدٍ مَـدُّوا إليه جميعًا كَفَّ مُقْتَنِصِ
إنْ جئْتهُمْ فَارغًا لَزُّوكَ في قَرَنٍ وإن رَأوْا رَشوةً أفْتَوْكَ بالرُّخَصِ) (
وتثبت نازلة عن ابن رشد ما قام به "أحد الولاّة في الصحراء من اغتصاب أهالي المنطقة في أموالهم وإبلهم، ومن هذه الأموال ذاتها كانت تقدم الهدايا للأمير المرابطي". ) (
لا شك أن الفساد الذي لحق بذوي السلطان من حكام، وفقهاء، وولاة... فتح الباب واسعا أمام صغار الموظفين للإقتداء بهم، إذ كثرت أوصافهم بأنهم "مرتشون، أشرار، ظالمون، فجار، لا أيمان لهم ولا دين، ولا روع ولا يقين) (، كما وصفوا بالجشع وانعدام الضمير، فاشتكى الناس من ظلمهم وكثرة مظالمهم وغراماتهم") (، ودليل ذلك الرسالة التي بعثها علي بن يوسف إلى القضاة بشأن التشدد في اختيار الحكام يقول "... فشرطهم الثقة والديانة والصون والأمانة، فإنهم إن كانوا بهذه الصفة، جرت أمورهم على سبيلها القاصد وسيرها الراشد وأمنت من جهة الرعية والحكام." )